قصـــة نصـــب الحريــــة فـــي بغــــــداد
المشاهدات 1434
تاريخ الإضافة 2015/08/11 - 8:38 PM
آخر تحديث 2023/05/31 - 12:57 AM
من بين ما ذكرته الكاتبة والصحفية أنعام كجه جي في كتابها (لورنا .. سنواتها مع جواد سليم) عن قصة نصب الحرية ببغداد انه جاء عبر تجليات المهندس العراقي القدير رفعت الجادرجي، الذي اقترح إقامة جدار عريض مرتفع في ساحة من ساحات بغداد الكبرى على هيئة بوابة عالية، تستند من جانبيها على الأرض. وكان المطلوب من الفنان جواد سليم نحت مشهد بارز من مادة البرونز يعلق على صدر البوابة. أما جواد فلم يكن يريد النصب مرتفعا ومعلقا بعيدا عن المارة. بل أراده قائم على الأرض وفي متناول الناس، لكي يستطيعوا الاقتراب منه وتفحصه عن كثب بل وتلمس معالمه بالأنامل، فخشي المهندس الجادرجي من وضع النصب بمستوى الشارع، أن يتسلقه الصبية ويهدروا هيبته. أو أن يكتب المارة أسمائهم عليه.. لم تزعج الفكرة جواداً. إذ كان يرى إن كل نصب يكتسب مزيدا من الجمال عندما يترك الناس ((الشعب)) بصماتهم عليه والتواريخ المحفورة عليها، دونما مخافة أن يحط ذلك الفعل من مكانة أو جلال العمل أو يهدر قيمته الفنية. وفي محاولة أخيرة من جواد، اقترح أن تقام ((بركة مائية حول النصب تمنع العابثين من الوصول إليه)) مؤكدا إن انعكاس المنحوتات على صفحة الماء سيكون منظرا أخاذا ومثيرا ..
حسم الجادرجي الجدل، بأنه بذل جهدا لإقناع المسؤولين، بإقامة النصب، وانه يخشى أن يصرفوا النظر عن الفكرة إذا تضاربت حولها الآراء..
وافق جواد على مضض ربما – واستدعي لمقابلة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم للاستماع إلى توجيهاته، وخرج من المقابلة شديد الارتياح والإعجاب بشخصية الزعيم، لكنه تأكد انه ليس رجل سياسة، وانه سيجد صعوبة في التعامل مع أهليها.
وخلافا لما أشيع – بعد إذ من أقاويل – تؤكد لورنا سليم زوجة جواد – إن الزعيم لم يطلب أن توضع صورة وسط الجدارية كما زعم البعض. ويبدو انه لم يخضع حتى للاقتراح بوضع صورته، بدليل إن النصب قد خلا من كل صورة ..
بعد فترة وجيزة من عودة جواد سليم وأسرته لبغداد، سعيدين بإكمال المنحوتات التي ستأخذ مكانها في ساحة التحرير، التي كانت قد وصلت على التو من فرنسا.وفي نهار شبه غائم في الثالث والعشرين من كانون الثاني عام \1961بعد أن الم به المرض وبحضور زوجته ( لورنا ) التي كانت تمسك قنينة المغذي. وتتبادل نظرات حائرة مع الطبيبين المرحوم د. سالم الدملوجي والدكتور خالد القصاب. وهما يتباحثان فيما يمكن عمله لإنقاذ ((الفنان المرهف المسجى أمامهم))، لفض جواد سليم أنفاسه الأخيرة في صمت وهدوء. وغادر مسرعا كما لو كان على موعد لايمكن تأجيله، وكان دون الثانية والأربعين.
لم يكن ذلك الانجاز الضخم يخص جواداً وحده، ولا المهندس رفعت الجادرجي وحده الذي رعى المشروع من ألفه إلى يائه، ولا الفنان محمد غني حكمت الذي كان شاهدا على ولادته، ولا لورنا سليم التي ظلت تؤازر زوجها طيلة أشهر العمل العصيبة. بل شعر كل فنان من أصدقاء جواد وتلامذته، إن هذا النصب يخصه بشكل من الاشكال ..