رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
كانت عندي كلمة حق أردت أن أغرزها في خاصرة الباطل وقد فعلت... أحمد مطر... شاعر المنفى... شاعر الحرية


المشاهدات 1000
تاريخ الإضافة 2019/11/12 - 5:57 PM
آخر تحديث 2019/11/12 - 5:57 PM

د. ماجد عبد الله أن يسقط رأسك على أرض لا تملك غير شموخ النخيل ، ونقاء الجداول التي اصطفت على حافاتها بيوت الطين ، وأن ينمو هذا الرأس في حاضنات الصدق والبساطة ، ثمّ وبدون إنذار تنتصب أمامه الصورة البشعة لحياة الشعب الغارق في مستنقعات الفقر والتخلف والاضطهاد تقابلها صورة المترفين الذين يملكون مفاتيح الأمر والنهي . أمام هذا المشهد المفجع ، لابدّ للرأس أن يسلك طريق الاحتجاج والصراخ ، أو طريق الخنوع والذل والاستسلام . في تلك الأرض ، وعلى ثرى ( التنومة ) الصبية الفقيرة الراقدة بين نخيل وأنهار شط العرب ، سقط رأس الشاعر أحمد مطر عام 1954 ابنا رابعا بين عشرة أخوة من البنين والبنات ، فتح عينيه على سعفات النخيل التي تحيط بمهده، رضع حليب الطين البصري ، شبّ على صدق الفقراء الذين لا يعرفون أساليب المكر والخداع، وفي سن الرابعة عشرة من عمره ، بدأ رأس الشاعر يبحر كل صباح على أجنحة أحلامه الوردية حاملا معه قصائد الغزل والرومانسية، لكنه اكتشف بعد حين أنه وسط الفجيعة ، أدرك بعفوية القروي الطيب أنه من المعيب أن يطلق زغرودة في هذا المأتم الذي يعيشه ، فخلع عنه ثوب الغزل ، وألقى بنفسه في دائرة النار . كانت البداية قصائد طويلة يلقيها على المنصّة ، قصائد من النوع المحرّض والرافض ، الأمر الذي أدرك معه أن الأمور لا يمكن أن تسير بسلام فاضطّر إلى مغادرة وطنه إلى الكويت . في جريدة ( القبس ) الكويتية عمل محررا ثقافيا، حيث بدأ يكتب بطريقة مختلفة عمّا كان يكتبه سابقا ، بدأت القصيدة تتناول موضوعا واحدا ، وبطريقة مكثفة جدا إلا أنها مشحونة بقوة الرفض وقائمة على الصدمة التي يلقيها بطريقة بارعة على رأس المتلقي ، فأرسى بذلك قواعد مدرسة شعرية جديدة يمكن أن نطلق عليها ( مدرسة شعر اللافتات ) . كان يكتب اللافتة ملتقطا موضوعها من عدسة الشاعر ، لا من رؤية السياسي ، فجاءت طافحة بالصدق وحدّة الشعور بالمأساة بعيدا عن الايديولوجيا ، وكانت لافتاته تقترب أحيانا من الومضة التي لا تتعدى السطر الواحد ، فهو يقول : ( الحاكم علمنـا درسا... انّ الحرية لا تـُهدى ... بل تـُستجدى ) ويقول في مكان آخر : ( في أي قطر عربي .. إن أعلن الذكي عن ذكائه .. فهو غبي !). أحيانا ً تتخذ لافتاته شكل المقطوعة الصغيرة التي تشتغل كلماتها على موضوع واحد ، وتلتف على محور واحد ، فهو يقول : ( الإعدام أخفّ عقاب يتلقاه الفرد العربي أهناك أقسى من هذا ؟ ـ طبعا ً أن يحيا في الوطن العربي ) في جريدة (القبس )الكويتية وجد أحمد مطر نافذته التي يطُل بها على العالم من خلال لافتاته الشعرية، وفي جريدة (القبس) التقى مع الفنان الفلسطيني (ناجي العلي) ليجد كل منهما توافقا نفسيا وصل إلى حد الدهشة ، كانت لافتة مطر تعانق ريشة العلي بطريقة جميلة، وكانت الصفحة الأولى تحمل لافتة مطر بينما الصفحة الأخيرة تحمل ريشة العلي ، واللافتة لوحدها فقط تثير سخط كل الحكومات العربية ، فكيف إذا ترافقت مع ريشة العلي التي بدأت تزعج ( أولي الأمر ) وتثير حفيظة السلطات ، فصدر قرار نفيهما من الكويت ، وبهذا انتقل الشاعر من منفى إلى منفى آخر ، وكانت لندن هي المنفى الجديد للاثنين ، وهناك تلقى الشاعر صدمة مقتل صديقه ( ناجي العلي ) بمسدس كاتم للصوت ، وبمقتل صديقه ازدادت شراسة الحرف وعنف الكلمة عند أحمد مطر : ( بالتمادي ... يصبح اللصّ بأوربا مديرا ً للنوادي وبأمريكا ، زعيما ً للعصابات وأوكار الفساد وبأوطاني التي من شرعها قطع الأيادي يصبح اللصّ .. زعيما ً للبلاد ! ) يقول الشاعر أحمد مطر عن منهجه في الشعر: (إنني عندما شرعتُ في الكتابة ، لم أضع في ذهني أية خطـّة لإنشاء مدرسة في الشعر .. ولا حتى ( حاضنة ) . كانت عندي صرخة أردت أن أطلقها ، وكلمة حق أردتُ أن اغرزها في خاصرة الباطل .. وقد فعلت ). وعن سبب تجاهله لوسائل الإعلام : ( إنني لم أتجاهل وسائل الإعلام .. بل تجاهلت وسائل الإعدام ، تلك التي تكتب بالممحاة ، وتقدم للناس فراغا خاليا ً محشوا ً بكمية هائلة من الخواء ). هكذا استمر الشاعر يسير على سكـّة الرفض ، فهو ليس ألعوبة بيد الحاكم ، بل كان لغما على الدوام لإزعاج الحكـَام ، وكانت تتلخص قضيته في مفردة ( الحرية ) وكان شعره يغري القارئ بتنوع المواضيع ، لهذا اصطف خلفه كلّ عشاق الكلمة الحرّة الرائدة المقاتلة : ( كنتُ أسيرُ مفردا ً أحملُ أفكاري معي ، ومنطقي ومسمعي ، فازدحمت من حوليَ الوجوه ، قال لي زعيمهم خذوه ، سألتهم ما تهمتي ؟ فقيل لي : تجمع مشبوه ! ). شعر أحمد مطر ، يتسم بالسخرية السوداء، فقد كتب الناقد المصري المعروف (رجاء النقاش) حول هذا الموضوع : ( شعر احمد مطر عنصر يجمع بين السخرية التي تشبه ما نسميه بالكوميديا السوداء ، وبين الاندهاش ومفاجئة القارئ بالصور التي تصدمه فتوقظ عقله ووجدانه ، وهو يعتمد في ذلك كلّه على كشف التناقض بينما هو واقع وبين ما هو قائم في النفس والعقل ). لقد استهدف احمد مطر في شعره الإنسان المقهور ، والشعب المضطهد ، وكان عدوه الأول ، الحاكم الظالم ، رجل الأمن ، الأنظمة الدكتاتورية ، وهو لم يساوم على قلمه فدفع ضريبة جرأته ، طرده من الكويت عام 1986. كانت قصائده الساخرة ، ساخنة ومؤثرة وجريئة : ( في بلاد المشركين يبصق المرء بوجه الحاكمين فيجازى بالغرامة ولدينا نحن أصحاب اليمين يبصق المرء دما ً تحت أيادي المخبرين ويرى يوم القيامة عندما ينثر ماء الورد والهيل بلا إذن على وجه أمير المؤمنين ) كان يطلق النار من قلمه بلا هوادة ، وكان شعره يحمل خزينا هائلا من الإحساس ، وطاقة كبيرة من الإبداع ، وكانت اللغة طيّعة بين يديه فيصوغها بطريقة مدهشة غارزا في نصوصه مرارة الواقع وعمق الفجيعة التي تعيشها الشعوب العربية ، مستخدما أحيانا ً تشبيهات قاسية : (نزعم أننا بشر لكننا خراف ليس تماما ً .. إنما في ظاهر الأوصاف نـُقاد مثلها ؟ نعم نُذعن مثلها ؟ نعم نـُذبح مثلها ؟ نعم تلك طبيعة الغنم لكنْ .. يظلّ بيننا وبينها اختلاف نحن بلا أردية وهي طول عمرها ترفل بالأصواف نحن بلا أحذية وهي بكلّ موسم تستبدل الأظلاف وهي لقاء ذلـّها .. تثغو ولا تخاف ونحن حتى صمتنا من صوته يخاف وهي قبيل ذبحها تفوز بالأعلاف ونحن حتى جوعنا يحيى على الكفاف هل نستحق يا ترى ، تسمية الخراف ! ؟)

تابعنا على
تصميم وتطوير