رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
حين يكون الألمُ لغةً.. الشّعرية تتفجَّر لافتةً قراءة لمجموعة «البقايا» للأديبة ليلى عامر


المشاهدات 1007
تاريخ الإضافة 2019/07/20 - 5:15 PM
آخر تحديث 2024/03/31 - 1:02 PM

حسين النجّار الزوراء / خاص في مضمار التّجوال المقرون بالصّدق ، المُضمّخ برغبة الإعلان عن هويّة ترتقي الذّائقة إلى مصافي البوح . والبوح بما نعنيه هو فتح كتاب المشاعر ونشر أوراق القلب .. ويوم يتمّ الدّخول إلى غابة اللّغة بجغرافيّتها وتضاريسها - بلا مواربة - قصد الخروج بما يجعل ذلك البوح نصًّا أيقونيّا يعرض ما يريده النّاصّ تكون هذه اللّغة بمثابة الوسيط الأمثل لإيصال فحوى النّصّ ، وتقبل ما بثّه النّاصّ ... وتلك لعمري مزية تحتاج إلى جرأة وقفز على الواقع المتربّص بالمبدع الخلاّق (( فكلّما ازدادت جرأة الإنسان على التّوغّل ، كلّما أصبحت الحياة أكثر جدارة بالاحترام ، وأكثر ذاتية ، وأكثر تفرّداً )) على حدّ قول «غاستون باشلار» ... من هذه الرّؤية أنطلق في قراءة مجموعة ( البقايا ) للكاتبة «ليلى عامر» الّتي ضمّت عددا من النّصوص الّتي لفت أغلبها انتباهي وجعلني أتوقّف لأعيد قراءتها ، فأخرج بحصيلة أنّ هذه النّصوص قيلت على لسان كاتبة تدرك أنَّ اللّغة وسيلتها المُثلى لمواجهة خطر المشاعر وتبعاتها ، فأصرّت على البوح ، متماهية بشعرية تمطر وجعاً خصوصاً وهي تعالج موضوع « الغربة » أو الهجرة القسرية الّتي يعاني منها مواطننا العربي الرّاغب بالقفز خروجاً من دائرة الجزع ، والكمد ، والمرارة قصد مصافحة الحرّية في مكانٍ آخر وإن كانت على قدر من التّضحية بنسبة من الكرامة . فهو يشعر بأنّ التّضحية بالجزء خير من الكلّ ... ومع هذا تبقى المرأة القرينة لا ترتضي خروجه ... إنّها تريده إلى جانبها ، متماهية مع حبيبة «ابن زريق البغدادي» الّتي حاولت منعه من السّفر والرّحيل فلم يأخذ بكلامها فعانى ما عانى في مضمار التّرحال والهجرة ، ولم يفده النّدم ، ولا وضع حلاًّ لخطأ ارتكبه فجزع ، وتألّم ، وانجرح ؛ ومن ثمّ كانت النّهاية ، الرّحيل الأبديّ عن حبيبته من غير لقاء واعتذار.... فنصّ ( الصَّدع) تقول : ((المدن كالأغاني نحفظها، نعشقها ، نردّدها ثمّ نملُّ لافتاتها المقرفة؛ ونغيّر كلماتها إلى مواويل ووجع)) ص15 وتلك خلاصة البوح الّذي نطقت به شهرزاد للّذي ارتحل وابتعد فلم يحظ بغير النّأي الجارح ، القاتل ولا يشذّ عن ذلك نصّ (الموت الأخير) حيث عودة المغترب إلى الدّيار واكتشاف أنَّ وجه الأمّ ، الزّوجة ، الأخت والأولاد تكاد لا تشبه الوجوه الّتي تركها قبل رحيله ؛ فقد كانت السّحنات محناة برماد الجزع ، والعيون تمطر رثاءً ، وألماً (( فما أصعب لحظات غروب الشّمس حين لا تعدنا بغدٍ آخر .)) ص8 ... وفي نصّ ( البقايا ) تتبدّل الأدوار. فالرّاحل ليس الرّجل الحبيب، بل المرأة الحبيبة الّتي توسّل أن تبقى إلى جانبه كي يقترنا ويعيشا الحياة المثاليّة ، لكنّها آثرت الرّحيل . وعندما عادت لم تجده إلاّ أباً لأطفال خمسة ((عشر سنواتٍ وهو يصرخ باكياً .. كان حزيناً ومذعوراً إن هي رحلت إلى بلاد أخرى ... تودَّدَ إليها تجاهلت .. دعاها رفضت .. توسَّلَ اليها تدلَّلَت .)) ص20 متلازمة التّرحال .. الحنين تشغل ثنائيّة الرّجل / المرأة ، أو الحبيب / الحبيبة اهتمام «ليلى عامر» في نصوصها الّتي جمعتها البقايا ، وهي تعي ما تكتب لقرّائها .. تدرك ما تريد قوله ، جاعلة من هاته الثّنائيّة همًّا يتداخل في الذّاتين الإنسانيتين ، يولّدهما التّرحال المقرون بالحنين أبداً ، مُشكِّلاً ما يمكن أن نطلق عليه « متلازمة التّرحال .. الحنين » ؛ وهو همٌّ لا يمكن للثّنائية تجاوزه لأنَّ التّعالق الرّوحي متواشج وإن خضع للمدِّ والجزر . وأقصد بالمدّ والجزر هو إنْ حدث فتورٌ في الحنين من أحد طرفي الثّنائيّة ، فإنّ الطّرف الثّاني يجرّه ويشدّه ويبقى متعلّقًا به ومتشبّثًا لا يريد له أن ينفصل حتّى وإن أبدى هذا الطّرف الثّاني رأيًا فيه من الغلظة والحقد انتفاضًا للكرامة وعزّة النّفس ؛ لكن سرعان ما يتراجع ويعود إلى شوقه ، وينسحب إلى حنينه كأنّه ارتكب خطيئة بحقّ من أحبّ ... ففي «لهفة الصّمت» يعرض النّصّ إفضاءً من هذا النّوع ((لحقت به ، أرادت أن تخبره كم تكرهه وتحقد عليه ، وكم تمنّت أن لو أنّها سارت في جنازته)) وحين (( وقف أمامها فإذا بها تقول بصمت : أحببتك رغم كلّ شيء )). ص25 إنّ موضوع الرّحيل، والاغتراب، والبعد على إيقاع ألم الفراق، والحزن، والانتظار هو ما يشغل الكاتبة في هذه المجموعة المتميّزة ؛ وهو موضوع إنسانيّ بحتٌ يمسّ العاطفة ويعيش على إيقاع الرّهافة الحسّيّة الّتي تتميّز بها كلّ مخلوقات الأرض، وإن كان البشريّ يقف في مقدّمة هذه المخلوقات ... ومن هنا فإنّ الشّعريّة الّتي جاءت رفيقة اللّغة ، بل العطر الّذي يضوع من بين ثنايا الكلمات والجمل إنّما جاءت من روح كاتبة مبدعة تمتلك موهبة مثلى، ولديها المشوار الموارب على تقبّل إبداعات قادمة تفيض بها روحها وتمطرها نثيثاً من عذوبة تقبل عليها الذّائقة القارئة بتقبّل واستحسان . قصائد الهايكو .. الكاتبة بين الشّعر والسّرد لا أتّفق مع الكاتبة عندما أعلنت للمتلقّي على صدر غلاف إصدارِها الأمامي ( مجموعة قصصيّة وخواطر ) . فالمجموعة تحتوي قصصاً فعلاً ، لكن إشارة « خواطر » لا أعتقد أنّ ما موجود خواطر إنّما نصوص شعريّة من نمط « الهايكو » ((وهو نوع من الشّعر الياباني ، يحاول شاعره ، من خلال ألفاظ بسيطة التّعبير عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة )). « يُنظر في : الويكيبيديا » ولقد تأثّر بها كتّاب الشّعر العرب الحداثيون وصاروا يكتبون على منوالها .. فما نراه في مجموعة الكاتبة إنّما هو قصائد هايكو تجمع التّعبير عن الحالة النّفسية الآنية لموقف يحدث في فترة قصيرة ؛ وهو ما نراه في أكثر من « خواطر » أديبتنا .. ومنها على سبيل المثال « النّورُ الّذي هُناكَ أضاءَ فجأةً واختفى لم يُصدّقُني أحدٌ حين قُلت أنَّ للقمرِ وَجهين هاربين ». ص33 كذلك : « في شوارع مدينة بعيدةٍ ولدت الحكاية ، وحرَّضَت على دمار أسوارها امرأةٌ مخلوقةٌ من نار ». ص76 وإذ أقدّم نموذجين لـ«خواطر» الكاتبة إنّما أبغي الإشارة إلى أنّ خواطرها إنّما هي قصائد هايكو ؛ أو قصائد نثر تمتلك قابليّة التّأثير الفاعل على ذائقة المتلقّي . خلاصة القول أنّ ما ضمّته مجموعة البقايا هو نمطان من الكتابة الأدبيّة « السّرد والشّعر ... سردٌ مضمخ بشعريّة عالية يدلّ على أنّ الكاتبة شاعرة أيضًا، إضافة لموهبتها المائزة في الكتابة السّرديّة ... وشعرٌ هو تعبير عن خلجات قفز على الوزن والقافية وارتضى لنفسه الحرّية .. ولقد استطاعت «ليلى عامر» بفعل موهبة متميّزة وثقافة واسعة إجادة كتابة الاثنين ، منتظراً يوما ما قراءة مجاميع شعريّة لها تسير بموازاة مع مجاميعها السّرديّة .

تابعنا على
تصميم وتطوير