جودت هوشيار
“الورق لا يستحي” مقولة تنسب الى الكاتب والخطيب الروماني شيشرون (43 – 106 ق.م.) كما وردت في رسائله “الى الأصدقاء”، بمعنى ان المرء يمكن أن يكتب على الورق ما يستحي أو يشعر بالحرج من التعبير عنه شفهيا . وفي موضع آخر من هذه الرسائل جاءت المقولة بصيغة “الورق يتحمل كل شيء” أي أن الورق يتقبل كل ما يكتب عليه : الغث والسمين ، او الجيد والرديء . في مقالنا هذا سنتحدث عن مشقة الكتابة الرصينة الجادة وطقوسها ، ذلك لأن الكتابة الرديئة لا تتطلب مشقة أو جهداً كبيراً .
متى يأتي النضج الفني :
يعتقد البعض ان الكتابة عمل سهل يمكن ان يمارسه أيّما شخص كان ، ولكن عندما يوغل في تجربة الكتابة ويزداد وعيا بها ، خاصة اذا كان يدرك خطورة الكلمة ومسؤوليتها ، فأنه يتأنى ويتباطأ في سكب كلماته على الورق بشكل تلقائي بعد ان يكتشف أن الكتابة الجادة ليست بالأمر الهين، بل عمل شاق يزداد صعوبة ومشقة كلما ازدادت خبرة الكاتب ومعرفته بأسراره بمضي الزمن وان الكتابة المزاجية السهلة، غير الجادة، تكون سطحية في معظم الأحيان ولا قيمة حقيقية لها ، لذا يجهد نفسه لكي ينتج نصّا جيدا وناضجا .
كان انطون تشيخوف (1860 – 1904 م) في بداية حياته الأدبية يعمل طبيبا في القرى والأرياف ويتنقل طوال اليوم ، من قرية الى أخرى لمعالجة مرضاه ، ويقطع مسافات طويلة في طرق غير معبدة ، وحين يعود في المساء الى بيته وعائلته مرهقا ، يأخذ قسطا من الراحة ، ثم يتحين الفرص للجلوس الى طاولة الكتابة ليكتب بسهولة ويسر ، ودونما جهد أو عناء قصصا ساخرة وينشرها في المجلات الفكاهية تحت أسماء مستعارة ومنها أسم ( أنتوشا تشيخونتي).
وقد اعترف تشيخوف في ما بعد ، أنه كان يكتب قصة فكاهية واحدة كل ليلة . وقد جمع هذه القصص القصيرة ونشرها في كتاب صدر عام 1884 باسمه المستعار (أ. تشيخونتي) وليس باسمه الحقيقي. وكان العديد من النقاد قد نصحوه عدم تبديد موهبته الفذة في نتاجات خفيفة لا ترقى الى مستوى الأدب الرفيع ولن تصمد أمام الزمن. واقترحوا عليه تأليف رواية أو قصة طويلة جادة ، اذا أراد البقاء لكتاباته. ولكن تشيخوف مضى يكتب أقاصيصه ولكن في الوقت نفسه دأب على استخلاص الدروس من تجربته الإبداعية . وعندما اقتنع بقيمة ما يكتبه ، أخذ ينشر نتاجاته باسمه الحقيقي أنطون تشيخوف، وبعد عدة سنوات ، عندما ظهرت أولى رواياته الناضجة فكراً وفناً ، ونال استحسان النقاد كتب الى صديق له يقول : “حسناً فعلت حين لم استمع الى نصائح النقاد ، لأن النضج الفني لا يأتي حسب رغبة الكاتب ، بل بالممارسة الدؤوبة للكتابة الجادة”.
حقاً ان الكاتب - أي كاتب – لا يتعلم من تجارب الآخرين بقدر ما يتعلم من تجربته الشخصية.
ومر الروائي والكاتب المسرحي الفرنسي الكسندر دوماس (1802 - 1870 م) والكاتبة الانجليزية أغاثا كريستي ( 1890 - 1976 م ) وعشرات غيرهما من مشاهير الكتاب بتجارب مشابهة لتجربة تشيخوف الأدبية ، لأن العمل الإبداعي كدح ومعاناة وعملية بناء تحدث على مهل ينجزها الكاتب وحيدا في خلوته .
الهام وصنعة
يقول الكاتب الفرنسي ستندال (1783 - 1842م ) : “لم أبدأ الكتابة الا في عام 1806، حين احسست في نفسي العبقرية . لو كنت قد افضيت الى انسان راجح العقل بخططي الأدبية ونصحني : “اكتب يوميا لمدة ساعتين، سواء كنت عبقريا أم لا” عندئذ لم اكن قد اهدرت عشر سنوات من حياتي في انتظار الإلهام”.
مقولة ستندال صحيحة الى حد كبير ولكن لا بد من هاجس يحرك العملية الإبداعية كلها من بدايتها. ان بذرة الكتابة أو النص وشحنته الأولى، قد تأتي المبدع في أي وقت، وفي أي مكان، وليس في موعدٍ محدَّد وفي طقوس معينة، ثم بعد ذلك يأتي دور الصنعة في تعديل النص وتهذيبه وتشذيبه وصولا الى صيغته النهائية .
وبصرف النظر عن الاسم الذي نطلقه على ( الهاجس ) أو ( الدافع ) الذي يقف خلف احساس الكاتب الداخلي ، أعتقد أن من الصعب أن يبدأ الكاتب بالعمل اذا لم تكن (فكرة ما) قد استولت على تفكيره ويتلهف للتعبير عنها وتجسيدها. أو لديه الرغبة في الكتابة عن موضوع ما في الأقل . والحق ان لكل كاتب طريقته في العمل ، منهم من لا يبدأ العمل الا وقد استحضر في ذهنه فكرة ما ، وآخر يجلس الى منضدة الكتابة وهو خالي الذهن من أي أفكار مسبقة . ولكن تجارب كبار الكتاب تثبت أن 90 % من الكتابة الإبداعية صنعة يتم اتقانها بالمران والممارسة الطويلة ، والشخص الذي يهرب من عمله لعدم وجود ( الهام ) يخدع نفسه بنفسه .
وقد عرف الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا ( 1907 – 1990م ) مورافيا بانضباطه الصارم ويقول في هذا الصدد : “منذ فترة طويلة جدا وانا اكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي انام فيها وآكل يوميا . لقد أصبحت الكتابة جزءا عضويا في ايقاعي البيولوجي”.
كان الكاتب الإنجليزي انطوني ترولوب (1815 1882م) يكتب يوميا عددا محددا من الكلمات . أما الكاتب والمسرحي والفيلسوف البلجيكي موريس ميتيرلنك ( 1862 – 1949 ) فقد كان يجلس وراء منضدة الكتابة صباحا في ساعة معينة يوميا ولم يكن يغادرها الى منتصف النهار، حتى اذا لم يستطع كتابة جملة واحدة . الروائية الفرنسية جورج صاند ( 1804 – 1876م ) كانت تعمل لمدة 8 ساعات يوميا.
العمل اليومي المنظم يتطلب تنظيم مكان العمل ( المكتب ) بشكل صحيح . يمكن الكتابة صباحا أو مساءا . يمكن الكتابة وراء طاولة او متكئا على أريكة، في مكان محدد أو في أي مكان آخر . وعموما فأن لكل كاتب طريقته في العمل . منهم من يعمل بشكل يومي منتظم ، ويواصل عمله الى حين الانتهاء منه ومنهم من يعمل على نحو متقطع حسب الوقت المتاح لديه او عندما ينتابه الهاجس مرة أخرى .
يقول المفكر الفلسطيني العالمي الراحل أدوار سعيد ( 1935 – 2003 م ) أن كتابه المشهور “الاستشراق” هو الكتاب الوحيد الذي أنجزه بنفس واحد ، ولا يعني النفس الواحد هنا أنه انجز الكتاب بجلسة واحدة، بل ان الموضوع لم يفارقه خلال أكثر من عام من العمل اليومي المنظم ، ولم يشغل ذهنه خلال كتابته بموضوع آخر.
وثمة كتاب آخرون لا يمكنهم مواصلة العمل على هذا النحو المنظم . بعضهم يتوقف فجأة عندما يصطدم بعقبة ما ولا يستأنف الكتابة في موضوعه الا بعد فترة طويلة . ولعل خير مثال على ذلك هو الكاتب الأميركي الساخر مارك توين ( 1835 – 1910م) . فقد كان يبدأ كل كتاب من كتبه في فورة حماس وعندما ينجز ربع الكتاب يصطدم بعقبات ويجد مشقة في مواصلة الكتابة ويتوقف لمدة 5 - 6 اعوام ينشغل خلالها بكتابات أخرى ، ثم يرجع بعد هذه الفترة وبحماس أيضاً لاستكمال ما تبقي من الكتاب . وعندما كان يخرق هذه القاعدة احيانا تحت الحاح الناشرين ويضغط على نفسه من اجل مواصلة الكتابة نرى ان بداية الكتاب رائعة وعندما نمضي في قراءة بقية الكتاب نشعر بأنها ليست ممتعة ومحكمة مثل بداياتها ولا ترقى الى المستوى الذي نعرفه عن توين .
طريقة عمل أي كاتب يتوافق مع خصائصه السيكولوجية ولا يمكن تعميم تجربة اي كاتب على اي كاتب آخر .
اهمية التركيز في العمل
التركيز امر في غاية الأهمية لأي عمل كان وخاصة للعمل الفكري أو الابداعي . اذا كانت بيئة العمل في أي مهنة أخرى - يتلقى فيها المرء التوجيهات من رؤسائه - تساعد على التركيز على العمل المكلف بأدائه ولو كان هذا العمل كتابياً . فإن الكاتب ينشد الخلوة والانعزال عن الآخرين من أجل التركيز الذهني والاندماج الكامل في العمل والانغماس فيه ، وهو يتمتع بحرية واسعة، حيث لا أحد يوجهه او يحدد له وقت إنجاز العمل ، وربما هنا يكمن سحر العمل الإبداعي أو الفكري .
كتب فرانز كافكا ( 1880 – 1924م ) ذات مرة في يومياته يقول : “إن كل ما كتبته في حياتي انما هو نتاج الوحدة”. ولكن لكي تكون هذه الوحدة مثمرة على الكاتب تجنب الانشغال بأمور جانبية لا علاقة له بصميم عمله . بعض الكتاب يلجأ الى غلق الراديو والتلفزيون في أثناء الكتابة وعدم الانشغال بالأنترنت – وليس غلق الكومبيوتر الذي اعتاد معظم الكتاب اليوم على استخدامه في الكتابة - أو باستقبال الضيوف . الكتب أيضا يمكن أيضا أن تعرقل العمل اذا كانت لا تمت بصلة للموضوع . كما ان كل ما يحتاجه الكاتب ينبغي ان يكون تحت يديه . ومن الأهمية بمكان تنظيم مكان العمل . شاهدت في متحف تولستوي في ( ياسنايا بالانا ) الغرفة التي كان يكتب فيها الكاتب العظيم روائعه الخالدة : طاولة وكرسي وحزمة أوراق وأقلام وكتب يستعين بها كمصادر لموضوعه ولا شيء آخر على الأطلاق .
ليس ثمة ما يعرقل عمل الكاتب مثل الصراع مع الوقت . ويقول الكاتب فيليب كلوديل ( 1962 ) “ أكتب في أوقات أو في أمكنة قد لا تخطر على بال أحد. لا يهمني أن اؤمن طقوس الكتابة فقط بل يجب أن أكون في وضع نفسي يحملني على الكتابة: في المنزل، في الطائرة والأهم أنني لا أكون أعيش صراعاً مع الوقت، بل أكون خارج كل توقيت”.
طقوس وعادات الكتابة
لكل مبدع طقوسه الخاصة ، التي تضعه في جو الكتابة ومناخها . كان مارسيل بروست (1871 - 1922م ) حريصا على العزلة والهدوء التام . جدران مكتبه كانت مغطاة بالفلين ، وحتى في مثل هذه العزلة التامة كان عاجزا عن العمل خلال ساعات النهار خشية الضوضاء ، ويقال أنه استأجر ذات مرة عدة غرف متلاصقة في أحد الفنادق لكي لا يتسرب اليه أصوات الجيران .
غوتة كان ثريا وقد حول قصره المنيف الى متحف : اثاث فاخر و تحف نادرة ورياش غالية ولكن غرفة الكتابة كانت تبدو متواضعة للغاية ولم يكن فيها ما يشتت أفكاره أو يصرف انتباهه عن الكتابة .
وقد اعتاد كل من كان كارل ماركس (1818 – 1883م) وفلاديمير لينين (1970 – 1924م) الكتابة في المكتبات العامة وهما غارقان في أفكارهما ، حيث تتوفر المراجع و الأجواء المناسبة للعمل في هدوء ودون مقاطعة ولا يزعجمها أي شيء .
اناتول فرانس ( 1844 – 1924م )عندما كان يكتب كتابه ( جان دارك ) أحاط نفسه بعدد كبير من الأشياء من القرون الوسطى وبعد انجاز الكتاب بدت له هذه الاشياء كريهة الى درجة انه طلب من اصدقائه ان يساعدوه في التخلص منها . وخلال كتابة رواية ( تاييس ) كانت غرفته اشبه بـ(متحف للثقافة القديمة ) حيث كانت ثمة كتب نادرة وتحف ومقتنيات اخرى قيمة وكان يمكنك تصور العالم الذي يعيش فيه بمجرد دخولك الى مكتبه .
اما عالم النفس السويسري كارل يونج ( 1875 - 1961م) فقد كان يكتب على ضوء الشموع المعلقة على جمجمة بشرية. ان العمل الإبداعي محاط دائما بأنواع من الطقوس والعادات التي تتلاءم وطبيعة الكاتب واسلوبه في العمل .