[caption id="attachment_18240" align="alignnone" width="266"]
فاطمة ناعوت كاتبة مصرية[/caption]
ثلاثون عامًا تفصلُ بين لقائي الأول بعمّ نجيب، ولقائي الأخير به. الأخيرُ كان في فندق «شبرد» المطلّ على نيل مصر، قبل طيرانه إلى السماء بشهور قليلة. حيث قاعةٌ ضوءُها خافتٌ لا يجرحُ شبكيةَ عين رجل جاوز التسعين، بينما فرادةُ عقله قد أثبتت أنها تحيا خارج الزمن. تحدَّثَ معنا بمحبة كعادته مع مريديه وحوارييه حول شؤون الأدب والسياسة. وانتبهتُ فجأة أنني لا أحوزُ أيَّ توقيع بخط الأستاذ على أيّة رواية من رواياته في مكتبتي. تركتُ الصالونَ وركضتُ على سُلَّم بهو الفندق نزولا، ثم دخلتُ فندق سميراميس المواجه، وصعدتُ إلى الطابق الأول حيث المكتبة التي تضمُّ أعمالَ الكاتب الكبير. لم أتحيّر كثيرًا في الاختيار، وامتدّت أصابعي رأسًا إلى «الطريق»، و«الشحّاذ»، الروايتين الأقرب إلى قلبي. حيث «البحثُ عن الذات ومطاردة الحُلم”. «البحث» في ذاته هو الهدف؛ وليس الوصول إلى الضالة. كلُّنا ينتظرُ شيئًا ما، والبحثُ هو القيمة. ولو تحقق ما ننتظر انتفى سببُ وجودنا. عدتُ ركضًا وكان الأستاذُ ينتظرني بقلمه لكي يوقّع على الرواية. كتابة اسمه فقط استغرقت، خمس دقائق كاملة بسبب الطعنة الخائنة التي أنهكت أوتار عنقه وذراعه. أشفقتُ عليه فسحبتُ الرواية من تحت قلمه، فتشبّث بها ونظر إليّ بعين العتاب قائلا: “إياكِ أن توقّعي، دون تأريخ!” فتركته يُكمل الإهداء كاتبًا: «2 أبريل 2006»، وكان ذلك هو الدرسُ الذي تعلّمتُه من العمّ وأُطبّقه كلمّا وقعتُ كتابًا من كتبي لقارئ. دسستُ الرواية، التي غدت ثروةً قيّمة، في حقيبتي ثم أخذني الصمتُ الطويل. أستمع له وأستمتعُ بخفة ظلّه وقفشاته السياسية وإلماحاته الذكية التي تشير إلى نصاعة وعي لم يستطع أن ينال منه تراكمُ العقود وغزارةُ العمل.
أما لقائي الأول به فكان في كازينو «قصر النيل». النيل أيضًا؟! تُرى ما الرابطُ بين النيل ومحفوظ، وبيني؟ كان عمري وقتها حول السنوات التسع. وهذا الرقم سوف يضر في قصيدتي الوحيدة التي كتبتها في نجيب محفوظ بعنوان: «الطريق»، وأهديتها إلى نجيب محفوظ، وقرأتُها عليه عام 2003 في فيلا د. يحيى الرخاوي بالمقطم، وأشاد بها رغم ما بها من هجوم عنيف عليه. كنتُ في التاسعة حين اصطحبتني أمي للكازينو لتناول «الكاساتا» المثلّجة. أشارت أمي إلى مجموعة من الرجال يتحلّقون حول إحدى الطاولات القريبة وقالت: “هذا نجيب محفوظ، الكاتب الكبير”. شببتُ على أطراف أصابعي لكي أراه ورحتُ أتأمل تلك «الحَسَنَة» الكبيرة جوار أنفه، أو «الزبيبة». وراح عقلي الطفلُ يحاولُ الربط بين الحسنة الكبيرة وبين الكاتب الكبير. كان ذلك قبل سنوات من حصوله على نوبل. لكنه كاتبٌ كبيرٌ قبل نوبل بدليل أن أمي قالت ذلك. أدفسُ وجهي في كأس الكاساتا بالفراولة والفانيليا، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدميّ كي أُحدّق في الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل تلك الزبيبة الكبيرة؟ أعودُ إلى البيت وأتفحَّصُ وجهي في مرآة غرفتي، فلا أجد زبيبة. أُطرقُ أسفًا لأن هذا يعني أنني لن أكون كاتبة كبيرة أبدًا!
أما قصيدتي إليه، فتحملُ العتابَ المُرّ الذي ملأ قلبي حينما بحثتُ في رواياته عن جدتي الجميلة الأنيقة الحُرّة، فلم أجدها. وجدتُ «زبيدة» التي تبيعُ جسدَها للرجال مقابل المال، ووجدتُ «أمينة» الفاضلة، ربما رغم أنفها؛ ذاك أنها لا تمتلكُ «الحرية» التي بها نحكمُ على فضيلة إنسان، أو عهره. ليس بوسعنا أن نحكمَ على فضيلة إنسان، إلا إذا كان حُرًّا مالكًا زمامَ أمره فاختار الفضيلةَ، بينما بوسعه ارتكاب الرذيلة. و«أمينة» لم تكن حرّةً حتى نُقرَّ لها بالفضيلة. لكن جدتي كانت حُرّة وفاضلةً باختيارها. وذاك هو النموذج الذي لم أجده في روايات نجيب محفوظ. فكأنما حصرَ عمُّ نجيب النساءَ في ثنائية: إما العاهر، أو الفاضلة رغم أنفها في قبضة الرجل. ومن هنا كان عتابي له في القصيدة التي اختتمتُها بقولي: (لن أصفحَ/ ولا شيءَ يُنجيكَ من غضبتي/ سوى تحريرِهن من ثنائيةِ الوَيْل/ سأكمنُ في عزلتي/ حتى أُصادفَ قيثارتَها/ قيثارةَ جدتي الجميلةَ/ التي وأدتها بين سطورِك.)
يا عمُّ نجيب، يا فرعونَ مصر العظيم، سلامًا عليك. نَمْ مِلْءَ جفونِك عن شواردها، فقد سهرَ الخلقُ جَرَّاكَ، واختصموا.