[caption id="attachment_182860" align="alignnone" width="210"]
![سر الخلود الأدبي](http://alzawraapaper.com/wp-content/uploads/2018/09/Untitled-9-copy-8-210x300.jpg)
سر الخلود الأدبي[/caption]
ناهض الخياط
السياسة المحدودة بنفعيتها لا تصنع شاعرا ، حتى وإن زوّقت أحدا، وجهدت بتسويق كتابته ، لأنه بعد حين يركَن في ذاكرة الزمن كشبح كان يوما هنا .
ولو التفت المؤرخ الأدبي له، ونفضه من غباره، فلا يجد إلا كلاما منمقا باحتراف، ومشحونا بانفعالات ظرفية ساذجة ، أو صائتة بتلفيقاتها المنافقة. وبعكسها النصوص الأدبية التي اجترحت هموم شعبها، وهموم ذاتها في دفاعها عن مبادئها، ومناصرتها الصادقة لعزيمة المناضلين والمقاتلين من أجل حرية شعبهم وقضاياه العادلة.
قد مرت مئات السنين ، بل آلافها على المجتمعات البشرية المنظَمَة في جوانب حياتهم ، حيث أدرك مبدعوها أهميه العمل في مضاميره المنتجة، وفي آفاق الخيال فنجم المبدع النبيل الأصيل في سمائنا ، وتلاشى المدعون من الذاكرة مع هذه الحقيقة الناصعة التي رسختها الحياة بنواميسها الثابتة ، ينتفخ إزاءها المتعامون عنها ، والذين وضعوا في أفواههم لجام سيدهم طائعين ، لتحقيق أهدافه المعيّنة ، وحين ينالهم الضعف ، ويعجزون ، يطلق عليهم رصاصة الرحمة ، أو يسرّحهم تائهين .
وتظل النجوم التي تألقت في سماوات إبداعها تنير ليلنا ، وتبهج أرواحنا أبد الآبدين ، وهم يطلقون حسراتهم عن الحلم الذي يرونه بعيدا عنهم، ويصبون لتحقيقه في القصيدة التي يتمنون كتابتها بعد حين . ومع كل عطائهم ، يشعرون بانهم لم يصلوا للقصيدة التي تبرر حب الناس لهم واعجابهم بما أبدعوا ، وضديدهم من المتشاعرين يمنحون لأنفسهم الألقاب الذهبية علنا وبلا حياء ! كما يفرش النقاد مناهجهم، ويفتح المنظرون أوراقهم ، ليعلنوا عن قدراتهم على اكتشاف ما تخبئه في بواطنها النصوص وفقا لمنهجهم الذي اجترحوه .
فهل ندعو ، هنا ، المنظّر النابه والناقد اللبيب أن ينأيا عن التمسك المتزمت بالمناهج القارة ، والمتجددة التي سرعان ما تقف في حيرة السؤال عن كنه الجمال العظيم في النصوص الحديثة التي تباغتهم بقاماتها الفارعة ، أو حين نسألهم عن السر الذي خلد لنا ما احتفظنا به من روائع النصوص قبل آلاف السنين .
لقد درجت مناهج النقد الأدبي في سوحها بأسماء مختلفة كالشكلانية والبنيوية والتحليلية ، والانطباعية وغيرها ، وهي تتولى قراءة النصوص الإبداعية لتقويمها ، ثم تقييمها على مستوى المضمون والشكل متضافرَين معا ، أو منفردين ، وأحدهما هو محور النص الأساس ، أو هو ذاته . وكل منهج منها يمنح لرؤيته السيادة عليها لمعرفته المفترضة بسر العملية الإبداعية في ما يقرأه من النصوص دون مراء !
وقبل أن نبدي انحيازنا للمنهج الذي نراه ، هو، الفاتح الكاشف لسر إبداعها، نسأل المريدين والسائرين معهم ، هل باستطاعتهم أن يقدموا وصفة جاهزة للمبدع في كتابته ، يبقيه حيا مع الخالدين ؟ فإذا ما انبرى أحدهم بقوله : نعم .. أنا ! فسوف تنهض بوجهه النصوص الخالدة التي قدِمت لنا قبل مئات السنين مشعة بإبداعها ، فيرتدّون عنها حائرين ، ويعيدون النظر في وصفاتهم ليضيفوا لها ما يؤكد صحة رأيهم في مناهجهم السالفة واللاحقة ، لعلهم يدعمون بها زعمهم في تمكنهم من الإحاطة بسر إبداعها ، ليأخذوا بيد القارئ منتفخين بزعمهم إلى المكمن الأوحد الخفي للحقيقة الخالدة . هذه الحقيقة التي تتجلى لنا بين حقبة وأخرى بإيقاع حراك جديد .
وهنا يمتد عليهم ظل ملحمتنا الخالدة ( كلكامش ) بدلالات مضامينها التي رسمت تشكلات المجتمعات البسيطة الأولى ، وصراعاتها الحادة مع بعضها ،في تعارض أحوالها المعاشية، وانعكاساتها عليهم في عاداتهم الملازمة ، ونظام سلطتهم ، وما يتجلى به وعيهم إزاء حاجاتهم الطبيعية، وتساؤلاتهم الحائرة عن ظواهر الكون، وخوفهم منها ، ومن نهاية وجودهم المحتمة . فوضعوا دستورهم الذي يجب اعتماده في سيرورة حياتهم ، وقد اطلعنا على بعض فقراته في حوار صاحبة الحانة ( سيدوري ) مع ( كلكامش ) وهو في طريقه للبحث عن الخلود الذي ما زال يشغلنا .
فمما قالت له : ( كل الخبز يا كلكامش، فهو مادة الحياة ، واغسل رأسك واستحم ، واشرب الجعة ، وافرح الزوجة بين أحضانك ، ودلل الطفل بين يديك ، فهذا نصيب البشر في الحياة). وطلبت منه العودة إلى حيث كان . فوضعت في حوارها معه بعضا من فقرات الدستور الذي تخللت فقراته سطورَ الملحمة بلغة موحية ، بصور شعرية متوثبة بالفن والجمال، لتلهم منظري المناهج النقدية في مراحلها المتعاقبة ، ما يزكون به المنهج النظري والنقدي الأوحد الذي اجترحوه للنص الذي انتقوه بين النصوص . وهم يظنون بأنهم المالكون سر الحقيقة بمناهجهم الضيقة التي لا تتسع إلاّ بأسمائها !
إن ما طرحته ، هذه ، الخاطرة من رصد وتساؤلات تثير في رحابها سؤالا أخيرا لها فتقول:
هل أضافت المناهج السابقة واللاحقة شروطا واضحة لإبداع نص كوني آخر للنصوص العظيمة السابقة ، يستلهم حراك الحياة في شرايينها ، وملامحها الظاهرة ، ويضيف لرؤى الفكر والروح ملامح نابضة أخرى لخلقة نص عظيم ، وليس احتراق عود ثقاب، وشمعة ضوء خجول ، يداعب الليل قليلا وينطفئ !
وفي حيرتنا هنا ، هل لنا أن نقول : إن إبداع الشاعر يكمن في موقفه الفكري إزاء ما يواجهه في وجوده ، وفي زاوية نظره إلى ما يراه فيه. ولكل إنسان جيناته وبصمته منذ وعْينا في هذا الوجود .