صور من التراث العقلي العربي النقدي... النقد الادبي العربي انموذجاً
ثقافية
أضيف بواسطة zawraa
الكاتب
المشاهدات 1534
تاريخ الإضافة 2018/03/24 - 5:25 PM
آخر تحديث 2025/07/02 - 6:39 AM

داود سلمان الشويلي
يعد التراث عند بعض الدارسين ، والباحثين فيه ، امراً من الماضي–الجميل او القبيح ،الجيد او الرديء ، ومن هذا التراث ما وصلنا من شعر ،ونثر ،ونقد كذلك .
نقد ضم اسس و مقومات “نظرية !!!”كاملة فيه في وقتها ذاك ،وهو من انتاج العقل العربي القديم الحافل بالإنتاج الانساني ،الفكري ،والعلمي.
فيما حاول العقل الغربي ،تحت منظومة معرفية هائلة ،في المئة سنة الاخيرة، ان يشرع الابواب من امامه بعنوة ،و ينتج ،ويصوغ ،نظريات ممنهجة و”علمية” في النقد الادبي خاصة ،مرتكزاً على تراث فلسفي كبير ،في الرؤى ،والمناهج، والمفاهيم والتصورات ،فبزغ عند ذاك نجم سوسير في دراسته للغة ،ومن ثم جاء البنيويون ،اعتمادا على الدراسات العلمية للغة ،بحيث ان النقد اتجه ،بصورة ارادية او غير ارادية ،الى اضفاء العلمية عليه ،ولما كان كذلك ،اتجهت الدراسات الادبية العربية المتأثرة بمخرجات الدراسات والبحوث الغربية في القرن العشرين ،في دراسة المنتج الادبي التراثي العربي بنظرة جديدة ،تعتمد المخرجات الغربية ،وكأنها تقرأه من جديد.وكان ان وجدت هذه الدراسات الادبية العربية ضالتها في ذلك الارث الكبير والواسع للتراث العربي القديم ،ان كان في الشعر ،او النثر ،او النقد الادبي، وهو نقد الشعر ،لان الشعر كما سمي وقتذاك بـ (ديوان العرب)وأتساع ،وتنوع وتعدد فنونه، واغراضه .او كان في النقد ،فوجد نقاد الشعر،(نظريات!!!)نقدية ناضجة ،تحوي على آليات عديدة ومتنوعة، لدراسة ذاك المنتج الشعري الكبير.كان الجرجاني هو الممثل الابرز لهذا المنتج ،بما قدمه من اصالة في دراسة النص النثري(القرآن خاصة) ،والنص الشعري ،من خلال علم اللغة الذي وصلها ،واعتماداً على الكشوفات التي قدمها من سبقه من العلماء وقتذاك ،ودوره في دراسة الآي القرآني والشعر ،بحيث ولد وانتج” نظرية نقدية عربية” ذات صبغة علمية راسخة وقتذاك، تنتهج المدخل اللغوي ،اعتمادا على اللفظ والمعنى.
اول ما ظهرت من “نظريات” في التراث العربي النقدي ،هي :”النظرية اللغوية” في اعتمادها على ثنائية اللفظ والمعنى، والتأكيد على دراسة اللفظ، وكان من ائمتها: الجاحظ، والجرجاني.
وظهرت كذلك “نظرية”(الموازنة) لابي القاسم الحسن بن بشر الامدي المتوفي عام370هـ،التي كانت نظرية تقويمية للشعر ،لها اسس اولية في التراث الشعري العربي، لتمييز الشعر الجيد من الرديء، حيث وصل عنها اخباراً عن “قبة النابغة الحمراء” التي يعقدها في سوق عكاظ للشعراء ،حتى وصلت على يدي الامدي الى”الموازنة”بين الشعراء ،فوصلنا كتاب “الموازنة بين شعر ابي تمام والبحتري”للامدي، وكتاب”الوساطة بين المتنبي وخصومه”لعلي بن عبد العزيزي الجرجاني.
هذه الآليات التي يمكن ان ندعوها تجاوزا بـ”النظريات”لم تستمر طويلا ،بحيث يتصدى لها بعض النقاد بالبحث والدراسة،مما يضعها في المكان المناسب للتطور والتقدم،والارتقاء،والازدهار،بل صابها الافول،ومن ثم الموت البارد فأصبحت من التراث البارد عند البعض،والساخن عند البعض الاخر لما فيه من كنوز عظيمة.
***
والجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري 159هـ-255هـ)قدم دراساته الفحصية/النقدية في كتابيه “البيان والتبيين”، و”الحيوان”، وما زالت مقولته الشهيرة التي وردت في كتابه”الحيوان-ج3 –ص131-132”،في:((ان المعانى مطروحة في الطريق يعرفها العجمي و العربي.والبدوي والقروي والمدني،انما الشأن في اقامة الوزن،وتخير اللفظ،وسهولة المخرج،وكثرة الماء،وفي صحة الطبع،وجودة السبك،فإنما الشعر صناعة،وضرب من النسج،وجنس من التصوير))،تجد صداها عند النقاد والدارسين القدامى والمحدثين،و هي تعبر تعبيراً كاملا عن الوظيفة الحقيقية للغة، وقضية اللفظ والمعنى.
بذر الجاحظ البذرة التي اينعت على يدي الجرجاني، إذ اعتمد اللفظ في نظرته للشعر.
وقد اعتمد الجرجاني(أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني 400 - 471هـ)في كتابيه(اسرار البلاغة - تعليق محمود محمد شاكر-دار المدني)و(دلائل الاعجاز- في علم المعاني–تعليق محمود محمد شاكر-)،على اللفظ لا المعنى،وكيف ان هذه “النظرية!!!”تقوم على المجاز اللغوي الذي أنتج “معنى المعنى”عنده،اعتماداً على نظم هذه الالفاظ.
قال عن اللفظ((الفصاحة للفظ وتلاؤم الحروف)).ص57،و((ان المعاني لا تتزايد،انما تتزايد الالفاظ)).ص63.((البيان لا يقوم باللفظ وحده، بل بتأليف الالفاظ وترتيبها)).(اسرار ص9).
هذه الدراسات،الجاحظية”التي اعتمدت اللفظ”،والجرجانية”التي اعتمدت النظم في اللفظ وحالاته”،قد انتجت ما يمكن ان نسمية بـ”نظرية” نقدية في الكتابة الادبية،هي نظرية”النظم”،وقد كتب الجرجاني فيها كتابه”دلائل الاعجاز”إذ تناولها من كافة جوانبها،حتى باتت متكاملة،رصينة،وقتذاك.
فالجاحظ،ومن بعده الجرجاني،اهملوا المعنى الى حين،حيث اعتنوا بعملية صياغة اللفظ التي يسميها الجاحظ”السبك”،ويسميها الجرجاني”تعليق الكلم فيما بينه” إذ في هذه الحالة يجد المعنى وجوده،وحياته،بعد ان كان مختفياً في الالفاظ المكونة للجملة، والعبارة،او البيت الشعري،والقصيدة،وغير كائن الا بالنظم.
انتجت دراسات الجرجاني للشعر،نظرية نقدية سماها(نظرية)”النظم”،على الرغم من انه لم يطلق عليها المصطلح العلمي “نظرية”وقتذاك، وهي ((ليس الغرض بنظم الكلم،أن توالت الفاظها في النطق،بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها،على الوجه الذي اقتضاه العقل.وكيف يتصور ان يقصد به الى توالي الالفاظ في النطق،بعد ان ثبت انه تظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض،وانه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش،وكل ما يقصد به التصوير،وبعد ان كنا لا نشك في/ان لا حال للفظة مع صاحبتها تعتبر/اذا انت عزلت دلالتها جانبا؟واي مساغ للشك في ان الالفاظ لا تستحق من حيث هي الفاظ،ان تنظم عبى وجه دون وجه؟)).(دلائل ص49 -50)
ان نظرية النظم في الشعركما قررها الجرجاني في الحقل المعرفي،الثقافي العربي،الحقل الادبي والنقدي خاصة،هي:((ان لا نظم في الكلم ولا ترتيب،حتى يعلق بعضها ببعض،ويبنى بعضها على بعض،وتجعل هذه بسبب من تلك.)).ص55.
يقول جابرعصفور عن هذه النظرية،انها:((جاءت تتويجاً لتيار فكري نشأ وتطورواخذ يتبلور ويتميز من خلال طرح نفسه بما هو”انا”عربي اسلامي بياني.بديل عن الاخراليوناني الدخيل)).(جابر عضفور – مفهوم الشعر – القاهرة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- ط5- ص217) .
ان مفهوم “النظم”الجرجاني هو نفسه مفهوم النسق اللغوي في البنيوية،فالالفاظ لاتفيد بشيء،الا اذا نظمت، ونسقت،ورتبت،وعلق بعضها ببعض،وبسبب بعض،وبنسق خاص،عندها ينتج المعنى المراد الوصول اليه.
وليس من باب”عقدة الخواجة”عندما نقول ان العقل العربي النقدي قد انتج نظرية نقدية في الشعر،لان العرب كان اهتمامهم الاول هو الشعر، هي هذه النظرية التي تظاهي كثيراً ما انتجه العقل الغربي من نظريات نقدية في الادب بصورة عامة تعتمد اللغة وانساقها.
ان نظرية الجرجاني،التي اعتمدت اللغة بإعتبارها نظام علامات والتي تحكم وحداتها شبكة من العلاقات لانتاج الدلالة هي نفسها النظرية التي انتجها العقل النقدي الغربي في القرن العشرين، ولكن الفرق بين النظريتين هو اتساع هذه النظرية الغربية بحيث اشتملت على عناصر كثيرة،ودرست دراسة علمية/منهجية ووضعت لها الاسس والمقومات، على العكس من النظرية العربية التي ظلت تعتمد الانساق، و((تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض))،دون ان تتوسع الى ما هو ابعد من هذه الانساق ،وتُدرس علميا، ومنهجياً، وتوضع لها الاسس والمقومات ،والآليات، والقوانين الخاصة بها.ان التراث العقلي العربي اوجد لنا نظرية نقدية،الا انها لم تكن كالنظريات النقدية الغربية التي ولدت متأخرة عن العربية في علميتها،ومنهجيتها،واكتمال عدتها،على الرغم من ضرب احدهما الاخرى،وتسفيه فاعليتها،ودورها في الحياة الادبية،وهذه سنة الحياة بحيث الجديد يزيح القديم بشتى الطرق والوسائل.ويبقى التراث العقلي العربي رائداً في انه قد اثمر طريقاً،او”نظرية”لفحص نصوصه الشعرية،والنثرية،وتحليلهما،وتفسيرهما،وتقييمهما،وتقويمهما،وهي نظرية”النظم” الجرجانية،وهذا كاف ليكون رائداً في هذا المجال،لانها ما زال يتردد صداها في النظريات النقدية الغربية الحديثة.