رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
سادنةُ مقام الأحزان...


المشاهدات 1150
تاريخ الإضافة 2018/02/27 - 5:21 PM
آخر تحديث 2024/04/26 - 5:38 PM

[caption id="attachment_153330" align="alignnone" width="225"]سادنةُ مقام الأحزان... سادنةُ مقام الأحزان...[/caption] الزوراء / خاص/ عيسى عبد الملك لا أعتقد أن أحداً يحب البكاء، كما تحبه جدتي، فهي تتصيد مناسباته وتبحث عنها، وان لم تجد مناسبة، تختلقهـا .. اعتاد الجيران نواحها، وتعبنا من اختلاق الأعذار لها. لم تكن تبكي بصمت، بل عالياً كان بكاؤها، تختمه بــ ((يابويه)) تقولها بطريقة لا يحسنها غيرها. عند الفجر، تبدأ جدتي بالبكاء صوتها لا يخمد، حتى تخنقه بحة، تنقذنا من بكائها. إذا شرعت بالبكاء تصبح شخصاً آخر نخشاه، فهي لا تردد من ضربك إذا حاولت إسكاتها - ستقضين علينا واحداً بعد واحد، ”ياططوه”، قال لها مرة جدي، قبل إن تبعثر جسمه قذيفة جاءت عبر الحدود. - لن أقرأ، إذا لم تسكتوا هذه ا”لططوه”، قال قارئ حسيني، ذات ليلة وأبى أن يصعد المنبر. إذا دخلت جدتي، غادر والدي البيت وبات في مكان آخر. - إنها ترفع ضغطي، كان يقول، فينشب شجار، يحرج أمي. كانت جدتي غريبة فريدة .. تذهب إلى المقبرة، تبكي على قبور لا تعرف أصحابها. في سني الحرب المشؤومة، وجدتْ ضالتها... كانت تطوف البيوت المنكوبة، وسرادقات المآتم وتعود عند المساء منهكة، تنام دون عشاء. في أيام معينة,تقابل التلفاز، تعرف صوت مذيع بعينه، ما أن يزعق، حتى تعرف أن مصيبة قد حدثت وتروح تصرخ. تذهب إلى مركز الشرطة، تجلس على الرصيف المقابل، تنظر من يؤتى به من جبهة ما ملفوفاً بالعلم..تروح تضرب فخذيها. تلطم وجهها وتصرخ، يسرع إليها شرطي، يضع رأسه في حجرها ويروح يبكي ابنه الوحيد الذي جيء به ملفوفاً بالعلم. وعندما سقطت قذيفة على جدي في شارع قريب، لملمت أشلاءه ببطانية وبكته ثلاثة أيام حتى فقدت صوتها تماماً. في سني الحرب، اكتسبت جدتي، شهرة، كنائحة، وصداقات من نسوة مفجوعات .. في السنة الخامسة للحرب,فقدت جدتي بصرها وصارت النسوة يأتين إليها .. ذات يوم، فاجأتنا جميعاً .. جاء عمال، قسموا دارها إلى غرف ثمان متقابلة وتركوا باحة وسط الدار. - تعال، رقم لي الغرف من 1 - 8 .. رقمت الغرف، تفقدتهن، غرفة فغرفة. - أفرش لي كل الغرف ..قالت وأعطتني مبلغاً من المال جئت يحصران ومساند بسيطة ، كانت توجهني بحزم كما يوجه ضابط جنديا تحت امرته . - لمن كل هذا يا جدتي؟ أهي شقق مفروشة؟ سألتها. - لا، ليست شققاً ستعرف لاحقا أمّا الآن فعليك أن تساعدني بلا أسئلة فهمت ذلك؟. زاد حزن جدتي كثيراً حينما علمت أن دموعها قد جفت تماماً وان صوتها هو الآخر تقطعت أوتار حباله. - ليس للبكاء طعم بلا دموع علقت امرأة بألم. - هل يعقل إن ليس في العيون بقايا دموع؟. لابد من طريقة أخرى، قالت امرأة ثانية.. ذات ليلة ذهبت إلى بيت جدتي، كان الباب مفتوحاً وجدتها قد جلست تجرب شيئاً، خمنت انه خبطة دواء، تقرب هذا الشيء من انفها، ثم من عينيها مراتٍ ومرات، تضيف بعض المواد، تأخذها من صحونٍ قريبة، ثم تعطس. ليال ثلاث وبإصرار كانت تحاول، تجرب الخليط الذي اشترته من دكان عطار في سوق العشار .. ثم حدث ما لم أكن أتوقعه. راحت قطرات قليل من الدمع تنزل من عينيها وكنت ألحظ ذلك. - أقتربْ مني.. اقتربت منها .. قربت حقاً صغيراً من أنفي، ثم من عيوني، ودون وعي مني صرت أبكي .. تلمست دموعي، فابتهجت. بعد ليال أزداد عدد النسوة الزائرات لجدتي لكن لم تبك وان بكت فبلا دموع. هذا المبلغ للبخور، وهذا للشموع,وهذا للصينية، أريدها كبيرة.. ليلة جمعة، غصت باحة الدار بنساء كثيرات متشحات بالسواد. أنتضمن طابوراً أمام جدتي .. تأتي الواحدة فتسألها. - كم واحداً فقدت ؟ - واحدا. خذها إلى الغرفة الأولى,وأقودها إلى الأولى . - وأنت ؟ - اثنين .. رافقْها إلى الغرفة الثانية وهكذا,امتلأت الغرف الثمان بنساء ثكالى من أعمارٍ شتى جلسن بانتظار جدتي .- أتبعني .تبعتُها .. راحت تشعل شموعاً في الغرف، غرفةً، غرفة، وتضع عيدان بخور ومناديل من ورق. بعد أن تدخل جدتي، تناول كل امرأة حقاً صغيراً مرقماً حسب تسلسل الغرف,تمرره على أنفها وقرب عينيها,تتركه لديها وتنتقل إلى واحدة أخرى .. ما أن تعطس حتى تبدأ قطرات الدمع تسقط من عيون تحجرت منذ زمن. جدتي تغلق أبواب الغرف وتترك النساء وحدهن لساعتين أو أكثر. تسمع بكاء النساء ونشيجهن خصوصاً في الغرف عالية الأرقام. وسط الباحة، تجلس جدتي أمامها منضدة على المنضدة صينية كبيرة في الصينية شمعةً كبيرة أيضاً. بعد ساعات، تخرج النساء واحدةً اثر الأخرى تجر أقدامها، تحمل شموعها تسلم على جدتي وتضع الشموع المطفأة في الصينية وقبل خروجها تدعو لجدتي .. تروح جدتي تعد الشموع المطفأة، تضرب فخذيها، تلطم وجهها وتبكي بلا دموع. - في أي سنةٍ من الحرب نحن؟. سألتني. - في السنة السابعة,قلت لها. - يجب أن نوسع الدار,نضيف غرفاً أخرى ونبني ملحقاً نصنع فيه النشوق.. لابد من ماكنة لخلطهِ. ماكنة كبيرة هذه الحرب ستطول يا ولدي سيصير العراق مقبرة . ليلة الجمعة,يكتظ المكان بنساء قريتنا وبنساء من قرى أخرى. هزلت جدتي كثيراً ولم تكمل مشروعها. في السنة الثامنة من الحرب ماتت سادنة مقام الأحزان، اختنقت بنشقة سعوط مركزة، شيعتها كل ثكالى قريتنا والقرى الأخرى، بموكب من شموع طوقته الاحزان. بلا دموع فلم يبق في العيون دمع يذرف .

تابعنا على
تصميم وتطوير