رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
كلنا فاسدون


المشاهدات 1106
تاريخ الإضافة 2018/01/13 - 10:25 PM
آخر تحديث 2024/05/18 - 2:49 AM

[caption id="attachment_125178" align="alignnone" width="79"]فهد الدغيثر فهد الدغيثر[/caption] للفساد في مجتمعات العالم الثالث قصص «بطولية» وروايات تتفوق في إثارتها على حكايات «شهريار» و «شهرزاد» و «السندباد البحري» في ألف ليلة وليلة. إلى وقت قريب كان الشخص المغوار الذي يتصدر المجالس هو الفاسد الذي تحفه الملايين، بينما يطلقون على النزيه «ابن حلال»، لكننا لن نتحدث عن ذلك، بل سنحاول التعرف على الظاهرة وكيف يبدأ الفساد في النشوء والارتقاء ومن هي الأطراف التي تتبنى ذلك، ربما بلا وعي منها، حتى يخلق الفساد لنفسه هذه البيئة المدمرة. الواقع أن الفساد لا يبدأ في تقديم رشوة لرب العمل مقابل تسهيلات يستفيد منها الراشي، ولا مع تضخيم مستحقات مالية تذهب لمن بيده صناعة القرار والدفع كما هو شائع ومعروف في فهم المفردة، هذه الممارسات هي الحلقة الأخيرة في منظومة العمل المؤسسي للفساد. عندما ضغطت علينا البطالة في السعودية مثلاً، وضاقت بنا الحيلة، وضعنا تشريعاً حكومياً قبل بضع سنوات يفرض توظيف السعوديين بنسب محددة لدى شركات ومؤسسات القطاع الخاص، تحمس الكثيرون وتفاءلوا وفرحوا بهذه الفكرة، لكننا أهملنا الجوانب الأخلاقية ولم نضع الضوابط الصارمة التي تراقب التنفيذ بدقة بما يمكننا من معاقبة من يلجأ للغش والتزوير، النتيجة في الواقع هي إسهامنا في تأسيس عمل فاسد، ذلك أن صاحب المنشأة وحتى يضمن تسيير أموره مع الأجهزة الحكومية، تفادياً للعقوبات، بدأ يوظف بطريقة وهمية عدداً من الشباب بما يسد الحاجة لتحقيق النسبة المطلوبة من دون أن يقدم هؤلاء الشباب أي عمل لديه. بمعنى أن العملية مجرد وجود الأسماء السعودية بالهويات الوطنية في سجلات الرواتب لدى المنشأة وفي اشتراكات التأمينات الاجتماعية. نحن هنا خلقنا من العدم مشروع شباب فاسد ومنشآت فاسدة تمارس التزوير جهاراً نهاراً، يستمر هذا المشهد ربما إلى يومنا هذا ولم أقرأ أو أسمع عن معاقبة موظف أو منشأة واحدة، وبسبب تعدد جهات المراقبة لا يعلم أحد على من تقع المسؤولية في التحري والقبض؟ عندما نضع نظاماً للسير ولا نلاحق المخالفين الذين يرتكبون الأخطاء على مرأى من ضابط الشرطة الموجودة في منطقة وقوع المخالفة، فنحن نؤسس لا شعورياً مبدأ التمرد وعدم احترام الأنظمة من دون الخوف من المساءلة، ونمضي في حياتنا ومعاشنا وكأن شيئاً لم يكن. عندما نقول بأن من يرمي مهملاته في الطريق العام يعتبر مخالفاً لنظام البيئة ولا نطبق المخالفة على المخالف كواقع على الأرض فنحن حقيقة نؤسس لذات المبدأ ونضع الأساسات لبيئة الفساد، حتى في البيت والمدرسة والسوق لا يكاد يمر يوم من دون ممارسة فاسدة قد لا يشعر بها الغالب الأعم من مرتكبيها، الخطورة هنا هي أن غياب العقوبات على التجاوزات البسيطة يشجع على ارتكاب ما هو أكبر وأخطر منها فيما بعد. أذكر قصة قديمة عمرها أربعة عقود خلاصتها استخراج جواز سعودي لأجنبية معروفة لدى إحدى العائلات السعودية من دون حصولها على الجنسية، بسبب استحالة التحقق من الصورة التي كانت آنذاك ممنوعة في جوازات السفر للإناث، لم يتطلب الأمر الكثير من المهارة ليتجاوز الطلب وبنجاح موظف الجوازات والجنسية. إفساد رب البيت ذريته يبدأ عندما يحاول تربية الأبناء بمثالية لا تعكسها سلوكياته ولا أخلاقياته، عندها سيتصرف الابن تلقائياً في شكل مغاير للنصائح، لأنه شاهد الكذب والنفاق ممارسة مكشوفة في شخصية والده الذي يراه قدوة له، حتى الحصول على ورقة من عيادة صحية مغمورة «تثبت» مرضك وغيابك، وأنت بكامل عافيتك، عن المدرسة، يعتبر فساداً. لنتساءل كمجتمع ودولة، ما المعايير التي نتبعها حقيقةً ونطبقها في مواجهة الفساد، وأقصد بذور الفساد التي قد تبدو صغيرة؟ بكل أسف لا يوجد تطبيق لأي عقوبات مدونة لأي مثال مما ذكرت، صحيح أن الفساد المالي هو الأخطر، وقد بدأنا بمواجهته بقوة أخيراً، ومن أعلى الهرم، غير أن قصر تعريف المفردة على ذلك فقط يعني نوعاً من سوء الفهم وعدم إدراك أهمية القيم العظيمة المفترض تطبيقها ونشرها بين كامل فئات المجتمع. لذلك، لا بد من الذهاب إلى القاع. لا بد من الإشارة أيضاً إلى نتائج الفساد السلبية على الاقتصاد، وتحديداً على كلفة الإنفاق وكفاءته، وهي ضخمة بكل المقاييس، فإضافة إلى اختلاس المال العام، يوجد هدر مالي لا مبرر له في تصميم وتنفيذ المشاريع العامة ومراكز الخدمة بسبب تمرد المستخدم على التعليمات والإرشادات. عندما نؤسس طريقاً جديداً في إحدى المدن، على سبيل المثال فقط، وسبق أن تحدثت عنه، فإننا أصبحنا مجبرين وضمن المواصفات الهندسية، على وضع كتل أسمنتية ضخمة تأخذ أشكالاً هندسية مختلفة فوق الأرصفة المحاذية لمسار السيارات. لا يظن أحدكم أن هذه التصاميم جمالية وغرضها الزينة، بل هي موانع جغرافية ضد اعتلاء رصيف المشاة من السائقين المتهورين، الحقيقة أنني لم أشاهد لهذا المنظر مثيلاً في أية مدينة زرتها حول العالم وبعض تلك المدن لا يضع الرصيف أصلاً ويكتفي بطلاء الحدود بين مسار العربات ومسار المشاة باللون الأصفر. حسناً، كم ننفق على هذه الإضافات غير الضرورية التي لا توجد إلا ربما في حظائر الماشية؟ كم ننفق على صيانة ونظافة المدن حالياً وكم سينخفض المبلغ لو كان أصحاب البيوت وعموم سكان الحي ومرتادي الشوارع يتبعون الأنظمة الخاصة برمي النفايات؟ ليتنا نستشعر هذه المظاهر والسلوكيات ونتدارس كيف يمكن إضافتها ضمن أهداف برنامج التحول الوطني، لنتذكر أيضاً أن تنظيف المجتمع والبيئة في شكل عام من هذه السلوكيات الفاسدة سيتطلب تأهيل آلاف الشبان والشابات ليقوموا بدور الرقابة المتطورة، وهذا بدوره نافذة جديدة لخلق وظائف لائقة لطلاب العمل مهما كان تخصصهم العلمي مختلفاً عن مثل هذه المهمات. لا مانع بعدئذٍ من التحفيز والتقدير ومن ذلك وضع مسابقة سنوية تنافسية بين المدن والمحافظات السعودية والإعلان عن المحافظة الفائزة بالانضباط والنزاهة والنظافة وقلة الحوادث المرورية كل عام. مثل هذه المحفزات تشجع على انتقال العمل إلى تلك المدن التي برزت كمناطق واعدة للاستثمارات الجديدة. كل ما ذكرته هنا وما لم تتسع له المقالة يعتبر بديهيات في مواجهة الفساد في أشكاله وألوانه وتفرعاته كافة، ومحفزة للثقة والتنمية، ومعمول بها في الدول المتقدمة. من هنا لا خيارات أخرى غير البدء بمكافحة هذه الآفة كما نكافح أي «فيروس» معدٍ يؤدي للمرض والموت. كما لا يجب أن يقلق أحد من التكاليف المادية الإضافية المصاحبة لهذا التداوي والتعقيم، إذ ومهما بلغت هذه التكاليف، فصدقوني، أنها الاستثمار الأنجح على المدى البعيد اقتصادياً وأخلاقي.

تابعنا على
تصميم وتطوير