الزوراء / خاص / د. سعد عبد الأمير
تقدّم السخرية صورة هجائية عن الجوانب القبيحة والسلبية للحياة كما يصوّر معايب المجتمعات، ومفاسدها، وحقائقها المرة بإغراق شديد حيث تظهر تلك الحقائق المرة أكثر قبحا ومرارة، لتظهر خصائصها وميزاتها بشكل أكثر وضوحا، وليتجلّي التناقض العميق بين الوضع الموجود، والحياة الكريمة المرجوّة. و هكذا يجادل قلم الساخر كلّ قديم ميت متأخّر وكلّ ما يمنع عن التقدّم والرّقي دون عفو وإغماض.
إن السخرية تجعلنا نتعرّف علي الإنسان وعلي الذين وجّهت السخرية إليهم، ولا تهدف إلا إلى هذه الغاية. توقظ الناس من سباتهم العميق، وتقدّم تعريفا عن طرف الصراع الذِي أصيب بسهام غضب الساخر، لأن الغاية الكبرى من السخرية، تحقيق الوعي وإيجاد اليقظة .
يجب علي الأديب الساخر ألا يقترن انزعاجه بالأحاسيس، ويجب عليه أن يفرّق بين المجون والسخرية، ويحتفظ على وقاره عندما يقوم بالسخرية؛ بحيث لا يلجأ إلي التهريج، ولا يصبح أداة لأحاسيسه، ولا يقوم بالإنجاز عند الغضب، كما يجب عليه أن يكون هادئا مطمئنا.
تعبّر السخرية عن الأمور الغامضة بلغة عذبة قابلة للفهم، ما يؤدي إلي تعرّف الناس علي الضعف، والقصور، والنقص، وكيفية تحولها إلي المشاكل ، فعندما يعجز الجدّ عن البيان، تسارع السخرية في التعبير.
تقوم السخرية بتعريف الأمراض، ويجب على الناقد أن يتعرّف على هذا المجال كي لا تختلط السخرية الأصلية بالهجو، والهزل، والفكاهة؛ لأن بين هذه الأنواع، تتكفل السخرية وحدها برسالة اجتماعية، ولا تنحصر في مزاح ماجن، أو حتى مزاح طريف. تعتبر السخرية خليطا للعذوبة والمرارة. عذوبتها تكمن في الطرافة، ومرارتها تتجلّي في الانتقاد. بعبارة أخري السخرية تعبير للانتقادات المرّة بلغة عذبة فيها الكناية والضحك، تفرض التفكير .
والسخرية ذات غاية نبيلة إذ تبحث عن التنوير، كونها مرآة لحقائق المجتمع؛ لكن بلغتها الخاصة وتعابيرها المتميزة، ومن هذا المبدأ لا تنحصر مهمة السخرية في تصوير الحياة الاجتماعية، بل تقوم بتحليلها، وتفسيرها، وتبحث عن جذور مظاهرها، ووقائعها وأخيرا تقوم بتحكيمها .
من جانب آخر يجب استخدام الدقائق اللغوية، وطائفة من المحسنات اللفظية، والصور البيانية: كالمجاز، والاستعارة، والكناية، والإيهام، والإبهام و... إلي جانب المحسّنات اللفظية كالتضاد، وذم الشبيه بالمدح ليصل الأديب إلي النتائج المرجوّة بجمع قاطبة العناصر، والأدوات التي تصنع سخرية صادقة فاعلة هادفة.
يستخدم الأديب الساخر دائما لغة تتناسب مع الحال والمقام، لأن قلبه عامر بالآلام والأحزان، كما أنه يعبّر عن رأيه بلغة بسيطة موجزة، مبتعدا عن الإطناب دون أن يشعر بالحاجة إلي الترصيع، والجناس، والقافية، ولكنه يلجأ إلى بعض المحسنات كالإغراق، والمبالغة، وأنواع التشبيهات، وفقا لمهارته وذوقه في أنواع السخريات وفروعها المرتبطة.
تتسم لغة السخرية بطابع آخر، وهو الهروب من الواقع. إننا لا نصور واقع العالم الخارجي في لغة السخرية كما هو بل نستفيد نوعي الهروب من الواقع، فواقع العالم الخارجي في لغة السخرية إما يرافقه التكبير، أو يرافقه التصغير.
تتميز لغة السخرية بطابع خاص، بسبب وجود لحن نقديّ يصطبغ بصبغات مختلفة، ويستخدم عناصر كلامية، ومحسنات لفظية ومعنوية خاصة وفقا لمقتضيات كلّ عصر. فعلى سبيل المثال تتميز لغة السخرية في أدب ثورة الدستور ببساطتها، وابتعادها عن التعقيدات اللفظية، والمعنوية، والسخرية في هذا العهد استطاعت أن تكون تعويضا لفقر الجوهر الشعري.
السخرية قائمة على عنصر الإضحاك، لكن الضحك الناتج عنها إنما يصدر عن مواجهة الآلام الناتجة عن المظالم السياسية، والاجتماعية، ومن هذا المنطلق يعتبر شعر النضال والغضب، والشعر الذي يطالب الحق، ويدعو القارئ إلي التفكير. والحق أن قاطبة الأمور التي تدعو إلي الفكاهة، قوامها عرض مراحل للتقابل، والتضاد في تعامل الناس، والكاريكاتير أيضا يحتوي علي هذا الأصل، حيث هناك تناقض بين ما يتم رسمه، وبين ما هو في الحقيقة.
واستخدام لغة الحيوانات أيضا يعتبر من الطرائف المهمة في التعبير عن المفاهيم الفكاهية عن طريق التمثيل، أو السخرية، و تكثر في نتاجات الأدباء السلف: ككتاب كليلة ودمنة، ، وغيرهم، انتقادات عن لغة الحيوانات في منتهي الجمال، وذلك في قالب الوصف أو المبالغة، باعتبارهما أدوات للسخرية والإغراق مظهر آخر من مظاهر السخرية إذ يكبّر الأديب السّوءات، والعيوب بإغراق شديد عندما يأتي بصوره الهجائية، لأن الأديب يشعر بنفس الأحاسيس التي يشعر بها الناس، ولكن بشيء من الإغراق. فالكلمة الوحيدة التي يمكن جعلها مكان السخرية، هي الإغراق، إذ يصور واقع حياة الناس بنكهة السخرية. وعلى هذا الأساس تتجلي أبرز سمات السخرية في التعابير غير المتعارفة، والمغرقة، والجذابة، والمؤثرة، والسارّة، وفي نفس الوقت، المنبّهة، واللاذعة، وتقديم تصاوير فنية لاجتماع النقيضين، ووضع نكهة الفكاهة، وعنصر الضحك في الأمور الجادّة في ثوب من الرمز، والكناية مع الحفاظ على الجوانب الفنية بشكل عذب، وأسلوب ملؤه الإنصاف، بالابتعاد عن التحقير، ولكن بقصد الإصلاح مع شيء من الغضب والحقد.
ومن السمات الأخرى للسخرية الناجحة، هي أن تكون فارغة من الدوافع الشخصية، والعقد النفسية، كما يجب ألا يغفل صاحبها، المقتضيات الزمانية والمكانية، كي يصل إلی غاياتها الإنسانية العليا.