اعداد/سامي كاظم فرج
يقع شارع المتنبي في وسط العاصمة العراقية بغداد بالقرب من منطقة الميدان وشارع الرشيد. ويعتبر شارع المتنبي السوق الثقافي لأهالي بغداد حيث تزدهر فيه تجارة الكتب بمختلف أنواعها ومجالاتها وينشط عادة في يوم الجمعة، ويوجد فيهِ مطبعة تعود إلى القرن التاسع عشر، كما يحتوي على عدد من المكتبات التي تضم كتباً ومخطوطات نادرة إضافة إلى بعض المباني البغدادية القديمة، وكانت مباني المحاكم المدنية قديماً والمسماة حالياً بمبنى القشلة، وهي المدرسة الموفقية التي بناها موفق الخادم، وكانت هذه المدرسة في موقع مبنى القشلة الحالي (والذي كان موضع مديرية العقاري “الطابو” ووزارة العدل في العهد الملكي)، وفي نهاية شارع المتنبي يقع مقهى الشابندر التراثي القديم، والشارع حالياً هو سوق لبيع الكتب والمجلات القديمة والحديثة.
تعرض شارع المتنبي كغيره من مناطق بغداد والعراق لعدة تفجيرات ارهابية خلال فترة عدم الاستقرار الأمني بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م. إلا أنه تعرض يوم 5 ايار 2007، إلى هجوم بسيارة مفخخة أدى الى استشهاد ما لا يقل عن 30 متسوقاً وتدمير العديد من المكتبات والمباني. حيث تم تدمير المكتبة العصرية بشكل كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست عام 1908. كما دمر مقهى الشابندر الذي يعد من معالم بغداد العريقة. إضافة إلى تدمير واحتراق العديد من المكتبات والمطابع والمباني البغدادية الأثرية في الشارع.
وخصصت هيئة عراقية أهلية تهتم بالشأن الثقافي مبلغ مئة ألف دولار لإعادة تأهيل شارع المتنبي.
وتم تشكيل لجنة مشتركة من وزارة الثقافة ووزارة البلديات ومجلس محافظة بغداد لإعادة أعمار شارع المتنبي وتم اعادة افتتاحه يوم الخميس الموافق 18 ديسمبر 2008، بحضور رسمي واسع اضاف الى عدد كبير من الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين.
مشروع “شارع المتنبي يبدي هنا” لفناني الكتب من أنحاء العالم.
على إثر حادثة التفجير هذه التي تعرض لها شارع المتني في عام 2007، تشكل تحالف عالمي من 130 فنان لإنشاء مجموعة أعمال فنية عن شارع المتنبي. حيث تعقد في كل عام في الخامس من ايار ندوات ثقافية وعروض فنية وسينمائية في العديد من مدن العالم إحياء لذكرى مأساة شارع المتنبي.
ويعود بناء شارع المتنبي الواقع في قلب بغداد إلى أواخر العهد العباسي، واشتهر منذ ذلك الزمان بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية. وظل إلى اليوم يعج بالباحثين عن متنفس يستبدلون في مكتباته ومقاهيه أخبار العنف بأخبار الثقافة والمجتمع.
رغم ضجيج الباعة المتقاطع مع احاديث المارة واستفساراتهم عن الكتب، لا يتردد ابو ربيع في ان يرفع صوته فجاة، ملقيا على مسامع رواد شارع المتنبي في قلب بغداد ابياتا من الشعر.
لحظات وتتجمع بعض الحشود المنتشرة بين كتب تفترش جانبي الشارع العريق لتتأمل الراحل نعيم الشطري وهو يصرخ محركا يده بايماءة عفوية “اعز مكان في الدنيا سرج سابح، وخير جليس في الزمان كتاب”.
يستريح بعدها ابو ربيع على كرسيه، وفيما يكمل المارة جولتهم الثقافية، يواصل هو سرد ابيات من شعر ابي الطيب المتنبي، قبل ان يقاطع نفسه ليقول “لا تفجيرات يمكن ان تخرجنا من هذا الشارع”.
ويضيف ابو ربيع الذي يملك مكتبة في المتنبي منذ حوالى اربعين سنة ويهوى بيع الكتب الماركسية “المتنبي مربينا، المتنبي حياتنا”.
ولم تمنع التفجيرات الدامية التي هزت العراق يوم الخميس واستشهد واصيب فيها العشرات، ابو ربيع واصحاب المكتبات الاخرى من ان يفتحوا الابواب امام رواد الشارع من الكتاب والمثقفين وغيرهم.
وفيما كانت تزدحم في شوارع العاصمة آليات الشرطة والجيش ونقاط التفتيش بين الحواجز الاسمنتية المضادة للمتفجرات، وحده المتنبي ظل يعج بالباحثين عن متنفس يستبدلون في مكتباته ومقاهيه اخبار العنف باخبار الثقافة والمجتمع.
ويعود هذا الشارع الواقع في قلب بغداد بمنطقة يطلق عليها اسم القشلة، الى اواخر العصر العباسي، وكان يعرف اولا باسم “درب زاخا” واشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضن اعرق المؤسسات الثقافية.
وقد اطلق عليه اسم المتنبي في عام 1932 في عهد الملك فيصل الاول تيمنا بشاعر الحكمة والشجاعة ابو الطيب المتنبي.
وتحول شارع المتنبي في اوائل التسعينات، في ظل الحظر الدولي الذي فرض على العراق، الى ملتقى للمثقفين كل يوم جمعة حيث يتم عرض آلاف الكتب وتنتشر فيه مكتبات الرصيف.
ويبدا الشارع الذي يمتد لاقل من كيلومتر، بتمثال للمتنبي مطل على نهر دجلة، وينتهي بقوس بارتفاع حوالى 10 امتار، نقش عليه بيت الشعر الاشهر للمتنبي “الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم”.
وتباع في هذا الشارع الذي تحيط بجانبيه ابنية تراثية كانت تشكل معا مقر الحكم العباسي، كافة انواع الكتب، وعلى راسها السياسية والاجتماعية والتاريخية والفلسفة والاقتصاد..الخ، وتتراوح اسعارها بين 250 دينارا ومئات آلاف الدنانير.
كما تباع القرطاسية والاقراص المدمجة والنظارات الطبية والخرائط، وحتى الالعاب الصغيرة.
ويقول احد مرتادي هذا الشارع العريق وهو يقلب بين يديه كيسا يحتوي على كتب اشتراها حديثا “منذ حوالى 30 سنة وانا آتي الى هذا الشارع كل يوم جمعة. في كل مرة اقول اني لن آتي، لكني سرعان ما اعود عن قراري”.
ويضيف فيما تصدح اغنية “يا بحرية” للفنان مارسيل خليفة من مكبرات صوت مبعثرة بين كراسي قهوة على الرصيف ان “المتنبي اشبه بالحبيبة التي تفرض نفسها عليك. الاصدقاء لا التقيهم الا هنا، فهو اشبه بمتحف للوجوه قبل ان يكون مكتبة”.
ويتابع رجل الاعمال المتقاعد “المتنبي لا علاقة له بالواقع العراقي. هو جزيرة معزولة، عراق آخر، عراق الحلم”.
ويوضح ان “الثقافة تنمو هنا، فيما الخارج يزخر بالبغي، والتفجيرات، والعنف، والسياسيين المتفرغين للسخافات. هناك عراق الحقيقة، وهنا عراق الحلم، وهذا اثمن ما نمتلكه حين ندخل الشارع”.
وشهد العراق منذ اجتياحه عام 2003 اعمال عنف شبه يومية قتل فيها عشرات الآلاف.
وحين تعرض شارع المتنبي لهجوم السيارة المفخخة عام 2007 والذي استشهد فيه 30 شخصا واصيب اكثر من 65 اخرين بجروح.
بقيت حينها ولاكثر من يومين سحب دخان الحرائق التي التهمت المكتبات التاريخية تغطي سماء الشارع بعد ان تحول الى ركام وانقاض، قبل ان يعاد افتتاحه رسميا عام 2008.
ويقول الراحل ابو ربيع ان “اصعب ذكرياتنا في الشارع هي عندما وقع التفجير على ايدي احفاد هولاكو. كنت متوجها نحو النجف، وعندما وصلت قالوا لي: لقد وقع اكبر انفجار في بغداد، في شارع المتنبي”.
ثم يجهش بالبكاء ويسند جبينه بيده اليمنى قائلا “اصدقائي ذهبوا، خسرت الكثير منهم، والحياة هنا لم تعد كما كانت بدونهم”.
وعلى بعد امتار من ابو ربيع، يقلب ابراهيم (14 عاما) مجموعة من الكتب على الارض، مكررا عبارة “الكتاب بالفين دينار “ على مسامع مجموعة تتامل العناوين التي تشمل كتبا مثل “الف ليلة وليلة”، وكتبا اخرى مثل “المراة في سن الاخصاب والياس”.
ويقول ابراهيم الذي يعمل في الشارع منذ اعوام “اعشق الكتب. المكتبة ملك لوالدي، وكل اوقات فراغي امضيها في هذا الشارع بين الكتب” ثم يتابع “اريد ان اكبر هنا”.
وعند مدخل المتنبي، يرى جمال سايا الذي يدير مكتبة لبيع كتب القانون منذ حوالى 28 سنة، ان المتنبي “يختصر ثقافة البلد”. ويضيف “اقل ما يفرحنا في هذا المكان انه يبعدنا عن التعصب والكراهية”.
القشلة حاضنة التجمعات الثقافية
شاهد على التحولات الكبرى في ذاكرة العراقيين
و شارع المتنبي،هو المكان الوحيد الذي لم تصبه الشيخوخة في البلاد، رغم مرور تسعة قرون على امتداده بمحاذاة دجلة. اختزن تاريخها وتحوّلاتها بين مكتباته وأزقته ومطابعه، رغم تبدّل العهود وتعاقب الحكومات. سمّاه العبّاسيون “درب زاخا” وهي مفردة آرامية الأصل. وسمّاه السلاجقة “شارع الموفقية”، نسبة الى مدرسة الموفقية الكائنة فيه وقتها. بينما أطلق عليه العثمانيون اسم “الأكمكخانة” أي شارع المخابز العسكرية لوجود تلك المخابز مقابل المعسكر التركي وقتئذ.
ثم سمّي في العام 1932 بشارع المتنبي، في عهد الملك الراحل فيصل الأول تيمنا بالشاعر الذي شغل الدنيا واللغة والناس أبي الطيّب المتنبي. ومازال المكان اليوم هو خامس أهم شارع للثقافة في العالم، حسب تصنيف الأمم المتحدة.
وينحدر المتنبي من نسل الذين صاغوا بنصوصهم وثوراتهم، ما تفخر به الأجيال عبر العصور من تواريخ ورموز حفرت عميقا في وجدان الشعب، بحثا عن الأمل والحريّة. فيبدو في ظاهره الكتاب واللوحة والأغنية، وفي باطنه هموم الوطن والمواطن وسبل التغيير. وفي هذا الشارع يمكنك أن تلتقي كل من لم تره منذ أعوام من دون موعد مسبق، فهو متحف للوجوه القادمة من كل بقاع الأرض، طيلة أيام الأسبوع.
وليوم الجمعة مذاق خاص، حيث يكاد الشارع ينفجر بروّاده ومحبّيه وزبائنه، يحتضنهم المتنبي بذراعيه الممدودتين بحنوّ وعزم وثبات. أدمن المكان المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي أمضى ستة وثلاثين عاما يبحث في تاريخ التصوّف البغدادي، وهو أوّل من قدّم الحسين بن منصور الحلّاج الى القرّاء العرب والأجانب، من بعد أن أتقن العربية، وكان البغداديون حين يرونه في الشارع يقولون “جاء صديق الحلّاج”، كما كان يرتاده نوري السعيد، وزكي مبارك، وجاك بيرك، وأم كلثوم، وشاعر الهند الكبير طاغور وآخرون.
ينساب المتنبي من كتف بغداد- شارع الرشيد، باتجاه دجلة وسط العاصمة. فيخط لنفسه مساحة الشريان في المدينة، قلبها الذي يخفق بالحب والحلم، حيث ينتهي الشارع أو يبتدئ، لا فرق، بتمثال المتنبي بمواجهة النهر.
بسيطات ومكتبات
هي ليست كتبا وعناوين وأكداسا من المخطوطات مرميّة على جوانب الرصيف، إنما هي تواريخ وحيوات وذكريات، أسماء وقصص تمتزج فيها رائحة الورق العتيق برائحة الشاي المهيّل الذي يعبق في فضاء الشارع، منبعثا من سماء المقاهي الصغيرة والكبيرة.
هنا تنمو الثقافة والوعي والطموح، ويتساوى الجميع بالتطلع الى أجمل ما يجب أن تكون عليه البلاد، وفي الخارج على مسافة شارع آخر فقط، تزدهر الحواجز الإسمنتية واحتيالات السياسة والتناحر على الغنائم.
الشارع العريق يتخذ لنفسه اليوم مهمة جديدة في ظل الانتصار الذي حققه ابناء الرافدين بعد ان داست سنابكهم وحوش دولة الخرافة ، ليتحول إلى منصة للتعبيرعن النصر بالثقافة والفنون والفرح والتفاؤل بمستقبل العراق وشعبه.
يقول احد اصحاب المكتبات عن شارع المتنبي “إنّ أقل ما يمنحنا إيّاه هذا الشارع، لا بل يفرضه علينا، هو أن نفكّر ونعيش بعيدا عن التعصب والكراهية والأحقاد. وفيه فقط تختفي الأحزاب والطوائف والمسمّيات، وتلتقي هنا مختلف الأجيال، يتحاورون لأبسط الأسباب (اسم كاتب أو كتاب)، بروحية المنتمي لهذا التاريخ العريق”.
ويضيف “لقد كان المكان في منتصف القرن الماضي سوقا للوراقين، وكان الشعراء والصحفيون والمثقفون ينتقلون من مقاهيهم (الزهاوي، حسن عجمي، الرصافي، البرلمان، أم كلثوم)، إلى المكتبات أفواجاً”، تلك الأفواج التي كانت تتحول إلى مظاهرات وهتافات أوقات المحن التي عاشها، ومازال يعيشها العراق.
“المكتبة العصرية” من أقدم المكتبات في المكان (قرابة العام 1908)، صاحبها محمود حلمي كان أوّل من استورد الكتب من بلاد الشام ومصر، وأوّل من طبع ووزّع أعمال القاص محمود السيّد، ودواوين الشعر الرصافي والزهاوي وغيرهم. إلى جانب “المكتبة العصرية” في القدم، هنالك مكتبة “المثنى”، “المكتبة العربية”، مكتبة “المعارف”. وقد صار لكل مكتبة فيما بعد تخصص بنوع محدد من الكتب التراثية والعلمية والفنية والأدبية، بينما اختص سوق السراي، الذي كان يمثل نواة النشأة الأولى، بالقرطاسية والكتب المدرسية والأقلام.
ديمقراطية الناس
لا بدّ من بسطة الكتبيّ الراحل نعيم الشطري (أبو ربيع)، التي تنتصف الشارع وتشتهر بتميّز مالكها وطيبته وصوته الصادح المحبّب القوي، كان دائما ينادي “بيت بلا مكتبة، صحراء قاحلة”، يقولها بأعلى صوته منذ أن امتلك مكتبة في شارع المتنبي عام 1953. هو أوّل من ابتدع فكرة المزاد على الكتاب، إذ يبتدئ السعر بالفلس والفلسين (ممازحاً) ومن حوله الزبائن يزيدون بالسعر، حتى يأتي دور الكتاب الآخر وهكذا.
كان مختصّا بجلب آخر المطبوعات وأحدثها، والآن يوقدون أمام مكتبته الشموع كل جمعة فوق منضدة زجاجية، وإلى جوارها كرسيّه المتواضع الذي كان يجلس عليه بعد أن هدّ جسده العمر والمرض، لكن صوته وحضوره بقي هو هو. يصيح بصوته المحبب العاشق “بغداد والشعراء والصورُ/ ذهب الزمان وضوعهُ العطرُ”، يكمل القصيدة ويجلس، ويقف بعد حين، والكاميرات كلها باتجاهه، وكذلك الناس “سلامٌ على جاعلين الحتوف/ جسرا إلى الموكب العابر”، وأحيانا عن رفيق عمره الكتاب يقول “أعزّ مكان في الدنيا سرجُ سابح/ وخيرُ جليس في الزمان كتاب”.
على مبعدة أمتار يعتلي شاب عشريني مكاناً مرتفعا قليلا عن الأرض، ويقرأ قصائده النثرية عن بغداد ودجلة وعشق المنتمين إليها، فيتجمهر حوله ممن شدّهم هذا الكلام، إنه سوق عكاظ القرن الحادي والعشرين فعلاً. هو ذا القاضي الذي اعتلى منضدة وصار يخطب بالناس عمّا يجري في الساحة السياسية والقانونية في البلاد، تعطي للشارع صفة أخرى، تؤكّدها تلك الحشود التي اقتربت لتستمع إليه وتناقشه فيما بعد.
اللوحات التشكيلية المعروضة من قبل فنانات وفنانين، تعطيك تنوعا آخر، تقول إحدى الفتيات لصديقتها وهما تقلّبان بعناوين الكتب “إنه المكان الوحيد الذي لا أتعرض فيه للمضايقات والتحرّش”. بينما هنالك من تجمّع حول شاب يغنّي بأسلوب ساخر عمّا يجري في العراق، مستبدلا كلمات الأغاني الشهيرة لناظم الغزالي وسليمة مراد وزهور حسين، بكلام عن عتاة الفاسدين وناهبي خيرات العراق وكذلك عن البطالة وغياب القانون.
إنه ليس سوق عكاظ إذن، إنما “هايد بارك” مختص بأوجاع العراقيين والامهم، بينما كل الفضائيات تبحث عمّا يلائم توجهاتها في التغطية. ولا بد لها من أن تجده هنا، موالاة ومعارضة، رموزا وعوام، مهمّشين ومنسيين ونجوما، من فضائية الـ”سي إن إن” الى فضائيات الطوائف والمذاهب والأعراق.
عشّاق الشارع وأصحاب المكتبات وروّاده حوّلوا تلك الكارثة التي نجمت عنالعملية الارهابية التي مر ذكرها وبعد لحظات من حدوثها، إلى مهرجان إنساني شعري عفوي، يدافع عن الحياة والثقافة والمكان، فهتفوا وألقوا القصائد وشتموا الظلام وقادته. يقول الشطري “لا مفخخات ولا تفجيرات يمكنها أن تخرجنا من هذا الشارع ” و”المتنبي هو من ربّانا وشحن عقولنا وأرواحنا بالجمال والتمرّد، فكيف نتركه وحيدا بين أحفاد هولاكو؟ مستحيل”.
فعل قتل الكتاب والمخطوطة هو أخطر من فعل قتل الإنسان، لأنّ الأخير له عمر محدّد مهما طال، لكنّ الكتاب خالد وأبديّ، لذا قتل الأوغاد بمفخختهم الهمجية تلك آلالاف من أرواح المخطوطات والكتب، إضافة الى أجمل الناس وأعزّهم من رواد ومرتادي هذا الشارع.
التسعينيات وحصار الثقافة
منذ تسعينييات القرن الماضي، حيث الحصار والتجويع، أخذت تزدهر ظاهرة بسطات بيع الكتب، وصار الناس يرون وجوهاً من مثقفي بغداد وكتّابها يبيعون كتبهم على الرصيف لتأمين رغيف يومهم، حيث كان المرتب الشهري للموظف لا يتجاوز ثلاثة آلاف دينار (دولاران)، فكان مرغما على بيع محتويات بيته، يبدأها بملابسه ثم أبواب الغرف في البيت، ثم أسياخ الحديد في الشبابيك والسقوف، وأخيرا كتبه، أقرب الكائنات إليه طوال عمره، فيعرضها على الرصيف، وهو مصلوب أمامها بالدمع والحزن والصمت، مشهد يوجز معاناة العراقي لخمسين عاماً بلحظة.
بسطات الكتب أكثر ما يشتهر به شارع المتنبي حيث ابتكر أصحابها أساليب للبيع فريدة من نوعها في العالم.
لذا وأنت تقلّب الكتب المرصوفة على البسطيات اليوم، ستجد الكثير من الإهداءات في الصفحة الأولى، بحبرها وحياتها وتواريخها القديمة، وبعض تلك الإهداءات من مؤلّفيها وكتابها أنفسهم، فتخطر ببالك الأسئلة (ترى أين هم الآن؟ هل هاجروا، هل التهمتهم المفخّخات، هل غرقوا وهم يعبرون البحار هربا من وجه الوطن، هل هم بأمان في إحدى العواصم الأوروبية، وأسئلة أخرى).
لاخطوط حمر على التقصي والمعرفة
المتنبي واحة معزولة لا علاقة لها بالواقع العراقي، هي عراق آخر، عراق الحلم والخيال والمعرفة والبهجة، تغذيه الكتب والمخطوطات من مؤلفات ابن عربي إلى سان جون بيرس، من كليلة ودمنة إلى آخر روايات دور النشر العربية التي أنشأت في الأعوام الأخيرة في ألمانيا ولندن ودبي، فثمة بسطة مختصة فقط بكتب القانون، والأخرى بكتب الفن والفنانين التشكيليين فقط، اذاً لاخطوط حمر على التقصي والمعرفة فهناك تجد لافتات مكتوبا عليها بعض قصائد مظفّر النواب، وصور فؤاد سالم، وبسطيات تصدح بالأغاني وتبيع الأشرطة القديمة، من ام كلثوم الى وديع الصافي وفيروز وصباح فخري، إلى حضيري أبو عزيز وداخل حسن وياس خضر.
عرف شارع المتنبي استنساخ الكتب وقت حصار البلاد، ووقت تتالي الحروب وارتفاع كلفة الكتاب الواحد، فوجد بعض الكتبيين في ذلك وسيلة للربح السريع، على ما فيها من مخاطر أمنية وقانونية، وبذات الوقت فهم يقدّمون خدمةً للقرّاء والزبائن المتعطشين للجديد والممنوع من الكتب، فينخفض سعر الكتاب بهذه العملية إلى النصف أو الربع غالباً.
لا بدّ من مقهى الشاهبندر في شارع المتنبي، وهي أحد الأماكن التاريخية فيه، والتي طالها التدمير بتلك السيارة المفخخة عام 2007، وأعيد ترميمها وتحديثها.
في صخبها وسكونها تجد الطبيب والمحامي والكاتب والشاعر والوزير والموظف والمواطن العادي، كما كانت منذ إنشائها قبل العشرات من السنين وهي لا تخلو من الزبائن، لقربها من كل طرق العاصمة الرئيسية، ولقربها أيضا من دوائر الدولة ووزاراتها، قديما وحديثاً، كما هي ملتقى ثقافي سجالي دائم تستعر فيه النقاشات وهموم المجتمع.
كائنات بغداد ورموز المحافظات العراقية ومثقفو العالم، كلهم لا بدّ لهم من أن يناقشوا، من ضمن ما يتحاورون فيه، سرّ شارع المتنبي بكل الأزمان وخفقانه الدائم في جسد بغداد والعراق.