على جناحيْه تكتمل الصورة وتتعطر القصيدة ، وعندما تخرج من شفتي قلمه يكون الابداع قد ألقى متاعه على نفوس السامعين ليحيله الى سحر وجمال .
لا يملك غير رحم ولود بكل صنوف العافية ، ومع ولادة القصيدة بعد مخاض يغادر كل منهما الآخر ليولد رحم جديد وقصيدة جديدة تنمو في أحشائه منتظرة الخروج الى الدنيا .
أجمل ما في قلمه الشعري ، عنفوان المفردة وكبرياء الصورة وألق البيت وفخامة القصيدة وعذوبة المعنى ، لا يعرف شعره طريقا الى الوعورة والخشونة ، ولا يقترب من مناطق الجفاف ، ولا يلامس حدود التصالح مع التقليد .
ولد شاعرا ، ومن يريد أن يضع الشاعر في الميزان النقدي عليه مراجعة حرفه البكر وقصائده الأولى وبعدها له الحق في ممارسة النقد .
لنقترب قليلا من صوت الشاعر أجود مجبل وهو يرتل علينا :
(( للبصرةِ الأولى سلامُ سحابةٍ
تهمي فيبتردُ الكلامُ القائظُ
وإلى عليٍّ حين مسَّ ترابَها
فمشتْ على الطرُقاتِ منه مواعظُ
وإلى الفراهيديّ يُبدعُ مُعجمَ الدنيا
فلمْ يُخطئْ بعشقٍ لافظُ
وإلى هوى الشطآنِ حين تذكّرتْ
كم باع مِنْ سمكٍ عليها الجاحظُ
وإلى رواةِ دروبِها لولا همُ
لمْ يحفظِ الشغَفَ المقدّسَ حافظُ
وإلى ( شناشيلِ ابنةِ الچلبيِّ )
مِنْ خلفِ السنينِ الذاهباتِ تلاحظُ
وتقولُ للسيّابِ : لا ترحلْ بعيداً يا حبيبي
إنّ فقْدَكَ باهظُ ))
الشاعر أجود مجبل العزف المنفرد في مرافئ الشعر ، شارك في المهرجانات والمؤتمرات الأدبية داخل العراق وخارجه ونالت قصائده اعجابا من قبل الجميع ، ونشر شعره في الكثير من الصحف العراقية والعربية ، وكتب عن تجربته النقاد العراقيون والعرب ، وفاز بالعديد من الجوائز الشعرية منها : الجائزة الأولى في المهرجان القطري للشعراء الشباب عام 1993 ، وجائزة الجمهورية عام 1994 ، والجائزة الاولى في مسابقة سحر البيان عام 2005 والجائزة الأولى في مسابقة مؤسسة الامل الابداعية عام 2011 ، كتب كل الأشكال الشعرية وأجاد فيها .
أصدر ديوانه الشعري الاول ( رحلة الولد السومري ) عن اتحاد الأدباء العرب في دمشق عام 2000 ، وألحقه بديوانه الثاني ( محتشد بالوطن القليل ) الصادر عن دار نخيل عام 2009 ، وجاء ديوانه الشعري ( يا أبي أيها الماء ) الصادر عن دار نورس في بغداد عام 2012 .
عضو في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ، وعضو اتحاد الأدباء العرب .
ثقافة الزوراء دخلت بيدر الشاعر أجود مجبل وخرجت منه بهذا الحوار :
* البعض يعتقد ان قصيدة النثر تقوم على غنائية عالية، والبعض يؤشر على قصيدة النثر من خلال الاختزان والاستبطان الداخلي ، فما هي مؤشراتك على نجاح القصيدة؟
قصيدة النثر مغامرة لغوية فائقة الدقة ، ومنظومة إدهاشية لا علاقة لها بالغنائية ، قصيدة النثر المتفوقة هي التي تجعلك تنسى أن الشعر يحتاج إلى وزن وقافية .
* الكثير يصرح بأن الزمن الحالي هو زمن الرواية بامتياز ، وانها استطاعت أن تضعف الاجناس الأدبية الأخرى ، فماذا تقول ؟
هذا الكلام تنقصه الدقة والواقعية ، فالشعر الحقيقي هو شعر لا زمن له ، بل هو الزمن البديل الذي تحدث فيه أكثر الأشياء تلقائية وسطوعاً ، نعم الرواية جنس أدبي مهم ولكن تم استسهالها بإفراط من قِبل الكثيرين فأنتجوا روايات خالية من اشتراطاتها الفنية المعروفة ، كما أن إيقاع للحياة السريع لا يسمح بقراءة روايات كثيرة وطويلة ، بعكس الشعر فأنت قد تقرأ ديوانا شعريا وأنت جالس في المقهى .
* قلم الشاعر ينهل من منابع عدة ، ما هو المعين المفضل لديك في كتابة القصيدة ؟
منابع الشعر غير معروفة بالتحديد ، ولكن الشعر يقتات من الذاكرة التي تختزن القراءات والمشاهدات والخسارات كتوليفة واحدة ، بالإضافة إلى الرؤى الوجودية التي تغري الشاعر دائما وتضعه على طريق الحدوس الكبرى .
* البعض يقول بأن الوزن هو مجرد أداة قياس للتناغم بين الايقاعات ، فماذا يقول الشاعر أجود مجبل ؟
الوزن الشعري أو البحر الخليلي في الشعر هو مجموعة وحدات موسيقية تتكرر بمتوالية عددية ، والوزن الشعري هو إضافة جمالية للنص بالتأكيد فهو استدعاء للموسيقا وإيقاعاتها المختلفة التي تشكل بانسجامها مشهدا نغميا مجاورا للمشهد اللغوي في النص ، لكن الإتكاء على الوزن الشعري لا يكفي لإنتاج نصوص فائقة ، فالنص الرديء لن تنقذه أية موسيقا .
* في الكثير من نصوصك سردية عالية ترافقها غنائية أعلى، أليس كذلك ؟
ربما يكون هذا صحيحا ولكنني لا أخطط له، فالقصيدة هي التي تشق طريقها وحدها، والسرد في القصيدة يكون ضروريا في أحيان كثيرة لمقاربة موضوعات تحتاج هذا السرد، أما الغنائية فهي تمنح النص لذة واقترابا من الآخر .
* كيف ترسم لنا تلك اللحظة التي خرج فيها حرفك المتوهج وأنت تضع خطوتك الأولى على مسيرة ابداعك ؟
هي لحظة بل لحظات مازلت أتذكرها جيدا ، كنت كلما قرأت أو أصغيت للشعر عن طريق كتاب أو أغنية تعتريني حالة من القلق اللذيذ يرافقه التماع ذهني وانشداد غير مفهوم للشعر ورغبة في كتابته وبمرور السنوات تأكدت أنني أحب الشعر كثيرا وسيصير قضية حياتي الأولى .
* ما الذي يدهشك وأنت تقرأ قصيدة النثر؟
قصيدة النثر هي تمرين رؤيوي نفاذ يختطف من اللغة أجمل مافيها ويطلقه على شكل برقيات سريعة لا تحمل إسم المرسل إليه .
* هل استطاع المشهد النقدي من مواكبة المشهد الشعري ؟
المشهد الشعري سيبقى دائما متقدما على المشهد النقدي بمراحل كثيرة ، وهذا أمر طبيعي ، لأن الشعر هو أقصى ما تستبطنه اللغة من سلطة وجمال وإيجاز ، والنقد يأتي لاحقا ليشتغل على هذا ضمن مناهج ومدارس معروفة .
* هل لديك طقوس في كتابة القصيدة ؟
ليس عندي طقوس معينة لكتابة الشعر، فهو يأتي من حيث لا أعلم ويرحل بلا كلمات وداع ، ولكن الشاعر يمكن له أن يستدرج القصيدة بالقراءة العميقة او الإصغاء إلى نصوص عظيمة تحرضه على الكتابة لاحقا.
* هناك ظاهرة تجسدت في كثرة الدواوين الشعرية ، هل هذا الكم الكبير من المطبوعات سيفضي بالضرورة الى خلق تطور نوعي في المستقبل القريب؟
هذا جزء من الوهم الذي يغري بعضا من الذين يكتبون الشعر ، الشاعر الحقيقي هو الذي يكتب شيئا جديدا ومختلفا لم يكتبه أحد قبله ، وهذا الأمر ليس له علاقة بعدد الدواوين ولا بعدد أبيات القصيدة ، وهذه الكثرة غير المجدية في إصدار الكتب الفارغة من المحتوى تربك المشهد الثقافي بالتأكيد .