في ظل تواطؤ دولي وعجز أممي واضحين، أمام ما يحدث من إبادة ـ بالمعنى الأوضح والأشمل للكلمة ـ يشهدها قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر كاملة ومتواصلة، يفتح الكيان المحتل جبهة جديدة للحرب بالضفة الغربية، وأيضًا أمام مرأى ومسمع من العالم كله شعوبًا وحكومات ومنظمات أممية، وقد صرح وزير دفاع الاحتلال يوآف جالانت بشكل عادي، بأنه التقى كبار القادة العسكريين قريبًا من جنين؛ لمعرفة الجديد حول عملية عسكرية تجري الآن بالضفة الغربية المحتلة.
وكانت حجة جالانت في ذلك - وإن لم يكن في حاجة إلى الدفع بأي حُجج، طالما مارس المحتل كل أنواع الوحشية في حرب إبادة غير مسبوقة، ولم يردعه رادع أو يُواجه بجدية من قبل المجتمع الدولي ـ بأن هناك الكثير ممن يحاولون إيذاء المحتل، لذلك تأتي العمليات في الضفة للتنكيل بنشطاء ومقاومين بعد القبض عليهم، ثم قتلهم؛ ليستشهد ما يزيد على 20 مواطنًا فلسطينيًا في غارات بعد عملية عسكرية واسعة النطاق في مدن الضفة الغربية ومخيمات اللاجئين، ومنها مخيم نور شمس، والذي شهد عدوانًا شاملًا لثلاثة أيام، استهدف البنى التحتية وشبكات المياه والكهرباء والإنترنت والاتصال، بل وتدمير الممتلكات خاصة، كل ذلك مع القتل بدم بارد للشباب الفلسطينيين بعد محاصرتهم، ثم احتجاز جثامينهم، وتصفيتهم بساحات المخيم، ولترتفع حصيلة الشهداء بالضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر إلى نحو 700 شهيد.
وعقد رئيس أركان الاحتلال هرتسي هاليفي، جلسة مع قادة المناطق، لترتيب مواصلة ما أسماه الحملة العسكرية في الضفة، ويؤكد أن هذه الحملة على جنين مستمرة، وقد كانت قوات الاحتلال قد داهمت بالتزامن مدن جنين ونابلس وطوباس وطولكرم، وكذلك مخيمات اللاجئين القريبة، وأغلقت قوات الاحتلال الطرق الرئيسية المؤدية إلى جنين، ودخلت المستشفيات، ومنعت الوصول إليها وإلى مستشفيات طولكرم، كما أغلقت قوات الاحتلال مداخل مدينة الخليل وبلداتها بالبوابات الحديدية، وقد داهمت عدة أحياء في المدينة واعتقلت شبابًا بعد تفتيش منازلهم.
ومنذ السابع من أكتوبر ينفذ الاحتلال عمليات عسكرية في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية، كل يوم تقريبًا، غير أنها زادت وتيرتها وزاد العنف والقتل وطرد المواطنين من منازلهم ومنعهم من الوصول إلى أحيائهم، فيما يشير بوضوح إلى تلك النية المبيتة من قبل الكيان المحتل، للاستمرار في استثمار أحداث السابع من أكتوبر كذريعة لتصفية القضية الفلسطينية، والعمل على تكريس وجود الاحتلال في الضفة الغربية بعد قطاع غزة، الذي استحدث جيش الاحتلال له منصبًا جديدًا باسم رئيس الجهود الإنسانية المدنية في قطاع غزة، ليتولى إدارة الجوانب الإنسانية وتنسيق القضايا المدنية، ويتولى المنصب العميد إلعاد غورين، للعمل على تثبيت احتلال القطاع لفترة طويلة، وإعطاء جيش الاحتلال الشرعية لاستمرار الحرب على غزة، ويوازي منصب رئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية، لتؤكد جميع الشواهد مُضي الاحتلال في مخططه والقضاء على الفلسطينيين من البحر إلى النهر.
ولأن الاحتلال لن يعدم الذرائع، كما لن يعدم المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا ودول الغرب الداعمة للاحتلال أي ذرائع لاستمراره في مخططه، مثل مواجهة حماس، والوقوف أمام تهديدات إيران وحزب الله، يُلاحظ هنا بوضوح أن جهود مفاوضات وقف إطلاق النار، تذهب وسوف تذهب أدراج الرياح في ظل تلك النية المبيتة لاحتلال كامل الأرض الفلسطينية، وتصدير الأذن الصماء لنداء المطالبات بدولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية، ونداءات وقف الحرب الشرسة على المدنيين الأبرياء، ونداءات الإنسانية بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية والغذاء والعلاج، ووقف التهجير القسري والاستيطان وبناء مستوطنات جديدة وطرد أصحاب الأرض من منازلهم وأحيائهم، وقد رأى الجميع كيف تكررت مماطلات نتنياهو، لتعطيل المفاوضات ما يسمح باستمرار الحرب القذرة وضمان وجوده دون مساءلة، حتى أن زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، قال خلال مؤتمر صحفي إن نتنياهو يستغل محور فيلادلفيا لإلحاق الضرر بالمفاوضات.
لذا فإنها قد تكون فرصة أخيرة أمام الاحتلال وداعميه، لإدراك مغبة ما أقدم ويقدم عليه كل يوم، فصبر الأوطان والشعوب له حدود، وأن إشعال المنطقة بصراع يتضح فيه تمامًا صوت الحق من صوت الباطل، فإن ما يحدث يقود ليس المنطقة فحسب، وإنما العالم كله إلى حرب عالمية ثالثة، لن ينجو منها الجميع، وهو الأمر الذي بصدده نضم صوتنا إلى نداء الأزهر الشريف الذي حذر ويحذر من خطورة هذا العدوان على أمن المنطقة واستقرارها، ونطالب معه مجددًا المجتمع الإنساني وجميع الأطراف الفاعلة، بتحمل المسئولية تجاه ما ارتكبته آلة القتل الصهيونية لهذا الكم من المجازر في غزة، وما يقدم عليه في الضفة الغربية، مع الانتباه إلى ضرورة بذل الجهود لوقف مخططات المحتل الغاصب الرامية لتزييف التاريخ واستباحة الأوطان.
نقلا عن «صحيفة الاهرام»