جريدة الزوراء العراقية

ادارة التعقيد والدولة القوية


 تمثل ادارة التعقيد complexity management في البلدان القوية ( غير الهشة ) المجال المعرفي الذي يدرس فاعلية الادراك الانساني لبلوغ نتائج مستقرة ومستدامة بغية الحصول على حالة التحسن المرغوبة او المستهدفة و بالمستويين الجزئي والكلي, ويتحقق ذلك في نطاق توافر نظام مناسب وهيكل تنظيمي متسق يسعى الى بلوغ اهداف محددة بشكل ايجابي على الامد البعيد.
وكالعادة طالعنا المفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقاله الاسبوعي الذي اخذ عنوانا لاهباً مفاده: ادارة التعقيد في العراق..!!.
حيث يرى العبادي انه ((…بسبب قلة الخبرة وضعف التكوين المعرفي يميل البعض الى تناسي المخاطر والتهديدات المحيطة بالعراق ،ويجنح نحو تبني سياسات راديكالية ظنا منهم ان هذه البرهة الزمنية مناسبة للاستثمار السياسي ،فيما يتروى اتجاه اخر من الفاعلين السياسيين ويدعو الى سياسات حذرة والتركيز على الاولويات الاقتصادية والخدمية لاخراج العراق من حالة الدولة الرخوة (المصطلح والمفهوم يعودان لعالم الاجتماع والخبير التنموي السويدي كارل غونار ميردال 1898-1989) ،هذا يتطلب تغيير نمط الانتاج الريعي واعادة بناء الاقتصاد وتوزيع الثروة ليكون ذلك مدخلا لمزيد من التنمية المجتمعية والسياسية لتحصين البلاد من الصدمات والاضطرابات والهزات الامنية والسياسية .
لم يجر في العراق نقاش معمق بشأن السبيل الذي يمكن انتهاجه للخروج من حالة التخلف والاضطراب الدائم والنزعة الجدلية والعاطفة السياسية المشبوبة . اذ يندر ان تجد حزبا سياسيا او جماعة او فصيل توفر على قراءة مجدية بمنهج معرفي لتاريخ العراق السياسي والاقتصادي والاثر الكبير للتدخلات الخارجية ومانتج عنها من استقطابات داخلية اسهمت جميعها في اعاقة بناء الدولة ونموها واستقرارها ،ليكون حاصل هذه القراءة رؤية مدونة بافق علمي ومنهجي تقود الى التثقيف بسياسات عامة ضرورية تغادر ماعرف به العراقيون من انفعال سياسي دائم ومواقف حادة ومجازفات لاترى ابعد من تخوم اليوم الذي تعيش فيه )).
ومن جانبي فقد ارى ان هناك قدر من الانسجام مع اطروحة المفكر العبادي ،اذ ان تدني (ادارة التعقيد ) لابد من ان يلازم مفهوم (الدولة الهشة )ولاسيما عند انعدام تقبل الحقائق الجزئية المتوقعة وهبوط قدرة الاستعداد للمفاجآت،واللجوء الى التفكير (الخطي linear )كبديل عن التفكير الاستراتيجي (الشامل ). لذا تدخل ادارة التعقيد وعلى وفق انعدام الكيان المعرفي لادارة الازمات في حالة من الركود المستمر في محيط مضطرب يقود الى تنامي الدولة الهشة soft State كما أدركها عالم الاقتصاد كونار ميردال حقا في كتابه الدراما الاسيوية drama Asian ( التحقيق في ادارة الفقر) الصادر في العام 1968.
فالادارة المنقلبة للتعقيد والتي فقدت خواصها المعرفية في تاريخ العراق الحديث منذ العام 1968 يوم نشر ميردال كتابه الموسوم (الدراما الاسيوية )على اقل تقدير ،قد شكلت متلازمة تراكمية سالبة لنشوء الدولة الهشة في العراق التي تزامنت مع الاحداث في بلادنا وتفاقمت في سنة صدور الكتاب نفسه .
وهكذا اصبحت اخفاقات ادارة التعقيد إرثا واقعاً في السلوك النفسي العام وهو ارث اعتادت علية البلاد في ادارة صراعات خطيرة بعيدة عن فكرة ادارة التعقيد التي تفاقمت منذ العام 1980 ولغاية 2003.
اذ فقدت فيها متلازمة الدولة القوية أفضليات ادارة التعقيد،بحروب وصراعات، آلت الى القبول
والتكيف للحصارات الدولية والعزلة عن العالم والخوف والترقب من الانفتاح على المحيط الخارجي ، مما ولدت وعياً سالباً اشبه ما ( بالأفيون ) لاستمرار فقدان ادارة التعقيد وقبول التعاطي مع المسارات الخطية ومدركاتها المجتزئة كحالة من الادمان والترقب نحوٍ اللاشي من مجاهيل لا يمكن ادراكها الا في ازمنة غير منظورة .
وفي اجمالياته ولد سلوكاً انسانياً
افقد الحياة الاقتصادية والاجتماعية و السياسية لوازم ادارة التعقيد نفسه ، رافق ذلك فقدان القدرة (البانورامية الشاملة )على مواجهة الظروف الصعبة و تعقيداتها في شتى وظائف الحياة اليومية .
اذ صار تفضيل التعثر في ذلك المسار الخطي جزءاً من الحياة الطبيعية اليومية التي يغلب عليها طابع قبول الانعزال والعزلة عن الآخرين وعن العالم واستدامة حالة الخوف من المجهول نفسه .

ولكي نجري تقيما لعقد الدولة الاجتماعي في بلادنا بعد العام 2003,فلابد من ان يكون لكونار ميردال حضورا في موضوع الدولة الهشة soft state .اذ يشخص ميردال حالة امم اسيا بعد الاستقلال قائلاً : ان العامل الرئيس المسبب للدولة الهشة او اللينة ان جاز التعبير ،هو ما قامت به القوى الاستعمارية من تدمير للعديد من المراكز التقليدية للسلطة والنفوذ المحلي والفشل في إيجاد بدائل قابلة للتطبيق. واقترن بهذا تطور موقف عصيان ازاء اي سلطة مركزية من اجل ارساء السياسة الوطنية ، واستمر هذا الموقف بعد الاستقلال كنمط تمردي . ويُنظر إلى مثل هذه (الدول الهشة) عندما يقول ميردال على أنها من غير المرجح أن تكون قادرة على فرض سياسات التنمية الصحيحة ولن تكون على استعداد للعمل ضد الفساد في جميع المستويات.
وأخيراً ، آن الاوان لبناء مستقبل بلادنا وادارة المصاعب بدلا من ادارة الصراعات على مسار خطي ،ومغادرة اخفاقات الدولة الهشة التي صاحبت فقدان ادارة تلك المصاعب بمنظور معرفي مستقر و شامل، وكذلك مغادرة سلوك ادارة الصراعات في كل صغيرة وكبيرة كبديل لقوة المعرفة في مواجهة التحديات التي عانت منها البلاد على مدار اكثر من نصف قرن ، وترك حالة التطبع نحو ادارة الصراعات اي (ادارة بلا مصاعب )خالية الاهداف تتبنى سلوك السبات بشكل خطي في محيط ادمن على التفكك والحصارات والحروب ، وهو امر لم تجني منه البلاد الا موروث تراكمي من (الدولة الهشة) التي تسعى وراء تحصيل الريع وفقدان التنمية المستدامة .
ختاماً ،ان اصلاح (ادارة المصاعب )هو بلاشك اولوية اولى لتوفير متلازمة ( الدولة القوية ) بعقل معرفي واسع يغادر عُقد الماضي القاتم الذي حول (ادارة المصاعب complexity management ) الى ادارة صراعات عقيمة conflicts management خالية من اهداف ليبقى عنوانها المستقبل ...
 نقلا عن « الحوار المتمدن»
 


المشاهدات 1261
تاريخ الإضافة 2024/02/03 - 10:22 PM
آخر تحديث 2024/11/09 - 12:03 AM

طباعة
www.AlzawraaPaper.com