
الخرطوم/متابعة الزوراء
تشهد مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، غربي السودان، واحدة من أكثر مراحل الحرب دموية وتعقيداً، بعد أن أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها عليها في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. غير أن انقطاع الإنترنت والاتصالات جعل من المدينة منطقةً مغلقة على الحقيقة، تاركاً المشهد الإعلامي فريسةً للتضليل والأخبار المفبركة التي اجتاحت شبكات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية.
وأعلنت نقابة الصحفيين السودانيين، في بيانها الصادر في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أنّ «كافة خدمات الإنترنت قطعت بما في ذلك شبكة ستارلينك، وهي الشبكة الوحيدة التي كانت تعمل في المدينة»، وحذرت أنّ هذا الانقطاع أدّى إلى «تعطيل شبه كامل لعمل الصحافة المستقلة، وتحويل الفاشر إلى منطقة تعتيم إعلامي». ووفقاً للنقابة، كان داخل الفاشر ومعسكر «أبو شوك»، قبيل اندلاع المواجهات الأخيرة، أكثر من عشرين صحفياً وصحفية، فرّ 12 منهم سيراً على الأقدام نحو مدينة طويلة المجاورة. وتعرّض اثنان للأسر، هما المراسل الصحفي معمر إبراهيم والمصوّر إبراهيم جبريل بابو، اللذان ظهرا لاحقاً في مقطع مصوَّر بثّته قوات الدعم السريع بعد احتجازهما. كما فُقد الاتصال بسبعة صحفيين آخرين بينهم صحفيتان، في حين أكدت النقابة أنّ أربعة صحفيين آخرين كانوا معتقلين لدى الدعم السريع اختفوا قسراً قبل اجتياح المدينة في 26 أكتوبر. وروى بعض الصحفيين الفارين أنّهم «قطعوا أميالاً طويلة سيراً على الأقدام وسط القصف والاشتباكات، في ظل انعدام وسائل النقل وغياب أي ضمانات للحماية». وأشاروا إلى أنّ بعضهم اضطر إلى ترك معداته الصحفية ومقتنياته الشخصية أثناء الفرار، فيما عانى آخرون من الإرهاق والجوع والعطش وتدهور الحالة الصحية بسبب انعدام الرعاية الطبية في المناطق التي وصلوا إليها.
في ظل هذه الظروف، وجدت المعلومات المضللة طريقها إلى الفضاء العام. فخلال الأيام التي تلت سقوط المدينة، انتشرت عشرات المقاطع التي قيل إنها توثّق فظائع الفاشر. من بينها فيديو حظي بأكثر من 13 مليون مشاهدة، زُعم أنه يُظهر «أماً سودانية تختبئ مع أطفالها الثلاثة من جنود الدعم السريع». لكن بعد بحثٍ عكسي تبين أن الفيديو يعود إلى 12 سبتمبر/أيلول، أي قبل أكثر من شهر على سيطرة الدعم السريع على المدينة، ما يؤكد زيف الادعاء. وفي مقطع آخر، انتشر فيديو يُظهر فتاة تصرخ داخل برميل معدني، وقيل إنه من دارفور. لكن وكالة فرانس برس أكدت أنّ الفيديو مأخوذ من مشهدٍ في فيلم الرعب الأميركي «ميغان مفقودة» (Megan Is Missing)، ولا علاقة له بأي أحداث في السودان. أما منصة مسبار لتقصي الحقائق، فرصدت عشرات المقاطع المنتشرة على تطبيق تيك توك، تُظهر مشاهد دمار ونزوحٍ ومعاناة إنسانية، مستخدمةً وسوماً مرتبطة بالحرب السودانية. وتبيّن بعد التحليل أن هذه المقاطع مُنتجة بالكامل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، باستخدام أدوات مثل «ميدجورني» و»رنواي إم إل»، في محاولة لتوليد صور صادمة تجذب التفاعل وتثير التعاطف. وقال الممثل الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرثيس، في مقابلةٍ مع شبكة دويتشه فيله، إنّ «هذه الحرب تُخاض أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُنشَر المعلومات المضللة بأبشع أشكالها. كل طرف يُلقي باللوم على الآخر، أو على الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة، في مناخ تغذّيه الكراهية وسوء النية». من جهتها، حذّرت سكرتارية الحريات في نقابة الصحفيين السودانيين من أنّ الفاشر تعيش «تعتيماً إعلامياً شبه كامل نتيجة مصادرة الهواتف وأدوات الاتصال من السكان»، وأكدت أنّ هذا الوضع جعل من «الحصول على معلومات دقيقة حول الوضع الإنساني وعدد الضحايا والمعتقلين أمراً بالغ الصعوبة».
وأكد الباحث في الإعلام الرقمي محمد عمر، من معهد الأبحاث الجنائية الرقمية (Digital Forensic Research Lab) التابع لمجلس الأطلسي (Atlantic Council)، أنّ «الفراغ المعلوماتي الناتج من انقطاع الإنترنت يجعل من أي فيديو مجهول المصدر مادة قابلة للتصديق، خصوصاً في الأزمات الإنسانية حيث العاطفة تتغلب على التحقق».
هكذا، ومع غياب البث الصحفي والمصادر المستقلة، غدت الفاشر ساحةً مزدوجة للحرب والتضليل؛ معارك على الأرض، وأخرى رقمية تملأ الشاشات بصورٍ مختلقة، تُسهم في طمس الحقيقة وتوجيه الانتباه بعيداً عن المأساة الأصلية. وأصبحت الحقيقة في السودان، كما في حروبٍ أخرى، رهينة الخوارزميات.