رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
مقاتل من أجل الحرية


المشاهدات 1513
تاريخ الإضافة 2025/11/09 - 9:29 PM
آخر تحديث 2025/11/14 - 8:41 AM

إحدى اللحظات الأكثر تأثيراً في زيارتي إلى سراييفو خلال شهر حزيران/ يونيو الماضي، كانت وقوفي في مقبرة الشهداء. ذلك المكان الأبيض الصامت الذي يطلّ من سفوح التلال على المدينة، حارساً ذاكرتها الجريحة، ومجّدداً ذكرى أبنائها الذين دفعوا أرواحهم أو كرّسوا حياتهم ثمناً لحريتها، وفي مقدمتهم علي عزّت بيغوفيتش، أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك المستقلة، ورمز نهضتها الفكرية والسياسية والروحية. وصانع هويتها الإسلامية .
عند مدخل المقبرة، تلفت الأنظار تلك القبة الحجرية البيضاء المفتوحة للضوء الذي ينساب بسكينة إلى القبور المحيطة، وتقف الأعمدة الحجرية شامخة مثل حرس قديم، في حين تصطف شواهد القبور البيض في صفوف طويلة تشبه جيشاً صامتاً لا يزال يؤدي واجبه الأخير في حماية الوطن من النسيان. المكان مهيب، تغمره روح التصوف العذبة والسكينة الجبلية التي تشتهر بها سراييفو: نسيمٌ عليل، وخضرةٌ تتسلل بين القبور، وطيورٌ تحلّق فوق رؤوس الزائرين، وأصواتٌ خافتة لخطواتٍ تائهة بين الذاكرة والخلود. وفي قلب هذا الصمت الخاشع يقع قبر علي عزّت بيغوفيتش، وقد خُطّ عليه اسمه بالعربية والبوسنية، وهو القائد الذي جمع بين الفلسفة والجهاد، وبين الفكر الحر والإيمان العميق، بين واقعية السياسة وأخلاق الفرسان. وتعلو القبر عبارةٌ عربية منقوشة بخط جميل، شاهدةً على الهوية الإسلامية العميقة للرجل وللأرض التي أحبّها ودافع عنها حتى الرمق الأخير.
 في خاتمة كتابه « هروبي إلى الحرية.. أوراق السجن 1983- 1988»، الذي ضمّنه ملخصات فكرية وثقافية وسياسية وأدبية لقراءاته خلال السنوات التي قضاها سجيناً، ينشر عزّت بيغوفيتش الرسائل التي كان يتلقاها من أولاده: « وكانت تلك أياماً ينتظرني فيها ما يقارب ثلاثة عشر عاماً من السجن،  وعندما كان الموت هو الأمل الوحيد. أخفيتُ هذا الأمل بداخلي مثل سرّ كبير لا يعرفه أحد غيري، ولا يستطيعون هم تجريدي منه. إذا كان الأدب هو هروبي الثقافي من ذلك السجن إلى الحرية، فإن هروبي العاطفي كان في تلك الرسائل. لست متأكداً بأن أولادي يعرفون، أو أنهم سيعرفون يوماً، ماذا عنت تلك الرسائل بالنسبة لي . كنت أشعر، في اللحظات التي أقرؤها فيها، أنني لست إنساناً حراً وحسب، وإنما إنسان أهداه الله كل خيرات هذه الدنيا». 
ما بين حجارة المقبرة البيضاء والبيوت العتيقة المحيطة بالمكان، تدرك أن سراييفو لا تنتمي إلى الماضي فحسب، بل تحمل جراحها كوسام، وتروي قصتها بصمت وهدوء ودموع. هي مدينة تتقاطع فيها المآذن مع أبراج الكنائس، وتلتقي فيها أرواح المقاتلين من كل الديانات الذين دافعوا عنها في معركة الحرية الطويلة المضمخة بالدماء والتضحيات. قاتلوا في سفح واحد، وعلى جبل واحد، وتحت سماء واحدة تظلل قبورهم. وعلى شاهدة قبر بيغوفيتش، نُقش على الحجر الأبيض نص بالبوسنية: « مقاتل عظيم من أجل الحرية. لكي لا نبقى عبيداً».


تابعنا على
تصميم وتطوير