جريدة الزوراء العراقية

معيار الأغلبية في الأنظمة الديمقراطية


من القضايا التي يكثر حولها الجدل في الفكر السياسي المعاصر، خاصة في المجتمعات المتعددة الهويات، مسألة حكم الأغلبية. فما المقصود به؟ وعلى أي أساس تُبنى أولوياته؟ وهل الأغلبية التي تمنحها صناديق الاقتراع في إطار الممارسة الديمقراطية هي نفسها الأغلبية التي تحدّد هوية الدولة ونظامها السياسي وسلطتها؟
هناك تصور شائع يعبر عن فهمٍ اختزالي لمفهوم الأغلبية، يقوم على افتراض أن الأغلبية تعني دائماً الأغلبية السياسية الناتجة عن صناديق الاقتراع، أي مساواة هذا المفهوم بالنتيجة العددية للتصويت، مع تجاهل جذوره العميقة في البنية الاجتماعية والثقافية للأمم. فوفقاً للمناهج السوسيولوجية والأنثروبولوجية، لا يُقاس مفهوم الأغلبية بالسياسة وحدها، بل هو بالأساس توصيف اجتماعي ــ إنساني ــ ثقافي يتشكل من عناصر متشابكة: 
1- الأغلبية الإنسانية القائمة على العرق أو القومية، وهي الجماعة التي تمثل الكتلة البشرية الأكبر ضمن النسيج الوطني.
2- الأغلبية الاجتماعية القائمة على الدين أو المذهب الذي يعتنقه أغلب السكان. وتدخل هنا أيضاً الأغلبية وفق نمط العيش ووسائل الإنتاج، كالحضر والبدو وأهل الريف.
3- الأغلبية السياسية، وهي محصلة تمثيل انتخابي، يعبر عنه شخص أو حزب أو تحالف يفوز بأغلبية الأصوات، غالباً ما تكون انعكاساً مباشراً أو غير مباشر للأغلبية الاجتماعية.
والتدرج الطبيعي المدني في هذا السياق يبدأ بـالبعد الإنساني (العرقي أو القومي) كمحدد أول، ثم البعد الاجتماعي (الدين والمذهب)، ويأتي في آخر المراتب البعد السياسي الناتج عن العملية الديمقراطية. في حين أن التدرج الديني يدفع بالبعد الاجتماعي الديني (المذهب الديني) ليكون المحدد الأول. والخلط بين هذه المراتب يؤدي إلى مجادلات سياسية عقيمة، بل وصراعات مجتمعية، كما هو حاصل في البلدان التي لا تحظى فيها الأغلبية السكانية الدينية المذهبية القومية باستحقاقاتها في القوامة على هوية الدولة ونظامها السياسي وسلطتها، كالعراق ولبنان والبحرين وآذربيجان وغيرها. 
وتمثل الهوية الوطنية البنية الرمزية والقيمية التي تميز الدولة والمجتمع عن غيرهما من الدول والمجتمعات، وتشمل اللغة، والقومية، والدين، والمذهب. وفي إطار علاقة الأغلبية بالهوية الوطنية للدولة؛ فإن الدول الحديثة التي بلغت درجات عالية من الاستقرار السياسي والمدني، تتبنى قاعدة حاكمة مضمونها أنّ هوية الدولة الدينية والمذهبية والقومية تنبع من هوية أكثريتها الإنسانية والاجتماعية، قبل أي اعتبار انتخابي. فالأغلبية السياسية، في حالتها الطبيعية، ليست سوى انعكاس سياسي لهوية مجتمعية أعمق: دينية ومذهبية وقومية. ولهذا نرى أن النظم السياسية في الدول الكبرى تنسجم مع التركيبة الاجتماعية ــ الإنسانية ــ الثقافية للأغلبية السكانية، وإن لم تقيد ذلك في دساتيرها.
فعلى سبيل المثال، في إنجلترا تنبع الأغلبية السياسية من الأغلبية السكانية القومية ــ الدينية المتمثلة بالإنجليز المسيحيين الأنجليكان، وفي الهند تنتمي الأغلبية السياسية إلى الأكثرية السكانية الهندوسية، وفي باكستان تنتمي هوية الدولة وأغلبيتها السياسية إلى الأكثرية المسلمة السنية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تقوم التقاليد السياسية على أساس الهوية المسيحية البروتستانتية، وفي إيطاليا تنطلق الأغلبية السياسية من قاعدة الأكثرية المسيحية الكاثوليكية، وفي إيران تنتمي الأغلبية السياسية إلى الأكثرية السكانية الفارسية المسلمة الشيعية.


المشاهدات 1894
تاريخ الإضافة 2025/09/10 - 9:50 PM
آخر تحديث 2025/11/15 - 10:19 PM

طباعة
www.AlzawraaPaper.com