قبلَ أيامٍ كنت جالساً أشاهد برنامجاً في إحدى الفضائياتِ العراقية عن معاناةِ كبار السن، وأوجعني منظرٌ لآباء وأمهات كبار في السن، تخلى أبناؤهم وبناتهم عنهم.. فمنهم من لجأ إلى دار المسنين، والقسم الآخر تحول إلى باعةٍ على الأرصفة والتقاطعات، في حين امتهن بعضهم التسول للعيش.
لم تتوقف دموعهم من البكاء، وحرارة صدورهم لم تنطفئ أمام كاميرات الإعلام الهادف، والأدهى من ذلك بعضهم لا يتكلم عن أبنائه بسوء، بل يدعو إليهم بالإصلاح والصلاح رغم قسوة قلوبهم عليهم.
في هذه اللحظاتِ امتلكني حزن كبير لحال المسنات والمسنين.. الحال الذي لا بدَّ أن نصل إليه يوما ما إذا مدَّ الله في عمرنا.. عجز، وضعف وأمراض مزمنة، وذاكرة ضعيفة أو ضائعة.
نعم.. الصحافة والإعلام رصد عدة مرات تفشي مظاهر جحود وعقوق الأبناء لآبائهم وأمهاتهم في مجتمعاتنا، والتي تشكل خطورةً بالغةً، لاسيما أن ديننا الحنيف نهى عن عقوق الوالدين، وعدم طاعتهما، وإهمال حقهما، أو إيذائهما ولو بكلمة أُف أو بنظرة، بل جعل عقوق الوالدين من كبائر الذنوب.
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)، ولو تمعنا في قوله تعالى لرأينا بياناً واضحاً وملموساً للمنهج الذي يحدد طريقة التعامل مع الوالدين.
وقد جمع ديننا الحنيف بين عقوق الوالدين والشرك بالله، وذَكَرَ رَسولُنا الكريم (صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ) الكَبَائِرَ - أوْ سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ- فَقالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، فَقالَ: ألَا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ قالَ: قَوْلُ الزُّورِ - أوْ قالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ.
كما أوصى القرآن الكريم بالأم، لفضلها ومكانتها، فقال سبحانه وتعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
أما نبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام) عندما تكلم في المهد كان من قوله: (وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي) أي: وأمرني ربي ببر والدتي والإحسان إليها، فمع ما آتاني الله من الوحي والمعجزات وما جعل لي من الفضل والتشريف فإني ألزم برها.
وهنا أذكر قصةً واقعيةً كاد بطلها أن يفقد أجمل شيء في الحياة الدنيا ألا وهي «الأم»، وكاد يفقد أيضا أغلى شيء في الآخرة ألا وهي «الجنة».
ذكر أحد بائعي الذهب قصة غريبة وصورة من صور العقوق .. يقول: دخل عليّ رجل ومعه زوجته، ومعهم امرأة مسنة «عجوز» تحمل ابنهما الصغير، ونحن في أيام عيد، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع الذهب والمجوهرات يشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات، دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمن خاتم اشترته المرأة العجوز، وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتماً فأعجبها لكي تلبسه في العيد، فقال لهذه المرأة، صارخا بأعلى صوته: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة: لماذا أغضبت أمك، فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟
ذهب الابن إلى أمه، وعرض عليها الخاتم، فقالت: والله ما ألبس الذهب حتى أموت.. ولا أريده ولا أريد الخاتم، ولكني أريد أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس.. فقتلت سعادتي سامحك الله.
القصص كثيرة ومتنوعة والأسباب أيضاً كثيرة ومؤلمة.. نعم نشتري لزوجاتنا وأبنائنا وبناتنا كل ما يروق لهم، وفي جميع المناسبات، وفي المقابل قد لا نتذكر آباءنا وأمهاتنا الذين سهروا من أجلنا، وبفضل دعائهم وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
أخيراً.. لا نجعل من مشاغلنا وهمومنا شماعةً نعلق عليها عدم صلتنا بأرحامنا، وفي مقدمتهم «الأب والأم» وذوي القربى.. ملذات الحياة لا تنتهي، ولكن للعمر نهاية، ولن تكون نهايته سعيدة إلا برضا الوالدين، فإن رضاهما من رضا الله.