يمكن القول أن كتاب الباحث عمر علي حيدر “ مذكرات شيخ جامع” ليس مجرد دفتر مذكرات يومية عادية، انما هو كتاب ببليوغرافي موسوعي معلوماتي عن احتلال بغداد في أيامه الأولى، بل قُل هو وثيقة تاريخية شاملة لكل الاحداث والظواهر التي شهدها المجتمع بعد غياب السلطة والقانون، وما اعقب ذلك من فوضى ودمار وجرائم فتكت بالعراقيين، وحرائق التهمت أبنيتهم واسواقهم ودوائرهم وجامعاتهم ومكتباتهم، ومآسٍ لم تكن ترد على بالهم يوماً، ولا خطرت في أسوء كوابيسهم. إنه من طراز الكتب التاريخية التوثيقية التي تحكي عن حقب زمنية مفصلية في تاريخ العراق، مثل “ تاريخ العراق بين احتلالين” للمؤرخ الكبير عباس العزاوي المحامي، أو “الثورة العراقية الكبرى”، و”أحداث عاصرتها” لشيخ المؤرخين السيد عبد الرزاق الحسني صاحب موسوعة “ تاريخ الوزارات العراقية”، أو “ تاريخ العراق في سنوات الاحتلال البريطاني” للدكتور أسامة عبد الرحمن الدوري وغيرها، لكني أكاد أجزم أن ما بذله الباحث في كتابه هذا كان جهداً مضاعفاً بسبب عدم الزام نفسه بالطابع الاكاديمي التقليدي، مع تقيده بمنهجية رصينة أضاف لها مرونة في اللغة والأسلوب، والطرافة التي رأت الاحداث بعين صحفية لاقطة وأحياناً ساخرة على الرغم من حجم المأساة التي كان يعيش في قلبها.
وكأي مؤرخ حريص شاهد الأحداث بأم عينيه وتعامل معها وشارك فيها، فإنه يتوقف عند تفاصيل صغيرة قد لا تبدو مهمة في ذاتها، لكنها تعكس في ابعادها طبيعة التغيرات المفاجئة التي طرأت على حياة الناس بين ليلة وضحاها، وكيف انقلبت المفاهيم، وصار الحرام حلالاً، بعد أن ضاع صوت العقل وتاه وسط تلك “ الفوضى الخَّلاقة” التي جاء بها المحتل، ثم تخلى عن مسؤوليته في حماية الأرواح والممتلكات، وبقي جنوده يتفرجون من فوق ظهور دباباتهم على ما يحدث تحت ابصارهم من دون أن يحركوا ساكناً. ولم يغفل المؤلف الذي وجد نفسه فجأة أمام امتحان عسير وهو يؤدي دوره الديني والتوعوي عبر الخطابة على المنبر، واختبار عملي لما كان يكتبه في الصفحة الدينية لجريدة “الزوراء” بوصفه صحفياً، الإشارة إلى العديد من المواقف التي لجأ فيها الناس لمن يثقون به، ويطمئنون إليه، ليدلهم على الطريق القويم، والحل الأمين لما كانوا فيه يعمهون بعد أن عميت أبصار البعض واغشيت قلوبهم.
مما زاد هذا الكتاب الذي ينوي مؤلفه اصدار طبعة ثانية منه مزيدة ومنقحة، ذلك الجهد الحثيث الذي بذله في البحث عن جذور العادات والتقاليد والطقوس الشعبية واصول الكلمات والعبارات المستخدمة في اللهجة البغدادية، وهو المعروف بشغفه وبحثه الدؤوب عن كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية والأدبية في بغداد أيام العهد الملكي، وما كُتب عنها من قبل باحثين كبار في التراث الشعبي, أصبحت مؤلفاتهم جزءاً من ذاكرة بغداد التي لا تنسى أيامها المريرة، والمدن مثل الرجال قد تتألم وتبكي، لكنها لن تستسلم لليأس والخذلان .