رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
دار الضيوف


المشاهدات 1259
تاريخ الإضافة 2023/05/23 - 8:56 PM
آخر تحديث 2024/04/25 - 5:17 AM

فتيحة قادة _ الجزائر
تحمل مفتاحا حديديا أثقل من يدها النحيفة و تفتح الباب الخشبيَ المتين ،أزيز المفتاح يفتح نافذة الماضي ريح الدار مألوف عندها ،تضع لخطاها طريقا ،تُقطَعُ بخزرانتها أنسجة العناكب الكثيفة ،الغبار يسيطر على الدَار و ظِلاله تبحثُ عن ضوء كي تُظهِرَ تضاريسه،يقتحمُ ضوء الشَمس المكان ،لا تبالي « الحاجَة» بالغبار و تجلس على حافَة الأريكة و تنظرُ إلى صورة زوجها المُعلَقة ،حدَقت في عينيه التي لم تجرأ يوما على النَظر إلى هيبتهما و إلى عمامته الصفراء التي كانت تغسِلها أوَل الغسيل أحسَت لأوَل مرَة بالوِحدة ،ثمَ نظرت إلى صورة الصَبيَ المبتسِمِ المُعلَقة الذي يرتدي طربوشا أحمرا و يرفعُ كفَيه داعيا « ربي اغفرلي و لوالديا و للمؤمنين يوم يقوم الحساب « هي لا تعرِفُ القراءة لكنّها تعرِفُ الصَبيَ الذي كبُر مع أبنائها من المهد إلى أن حملوا الألواح و أقلام الكتَاب و يقرؤون الدَعاء من الصورة و يحفظونه و تحفظه هي معهم ،ذاك التلفاز الأضخم بالأبيض و الأسود الذي يستولي على أجمل زاوية في الدَار ،كان كلَ نهاية الأسبوع يجتمع شباب الدَشرة عند أبنائها كي يشاهدون» فيلما بوليسيا» 
لا يزال التلفاز صامدا يُغطَيه وشاحٌ أبيض نسجته إحدى بناتها بالخيط و الكروشي عليه مزهريَة معدنيَة.
اقتحم صوت الطَبول المكان  أيام « الوعدة»في موسم جنيِ العنب و عجَّت الدار بغُبار الخيول و هي تتسابق على الأرض الرَمليَة و ترقص على المزمار ،تزاحمت خيوط الوليمة إلى أنفها الأقنى رائحة القدور الدَسمة و رائحة البارود مع عبير الكروم حين تندَفها حبَات المطر اللاتي تُنبَئُ بعام خصبِ.
كم دخلكِ ضيوف أيَتها الدار و زاروا الوعادي و تكرَموا بموائدك و باتوا على سجَادك الأحمر و بين حيطانك اللاتي تُغطَيها زرابيَ أحضرها زوجها من رحلات الحجَ و العمرة ،زرابيَ عليها رسومات الكعبة ،و أخرى عليها رجل السيرك يحمل قماشة حمراءا يُهيَجُ أعصاب ثوره الأسود،الخزانة الخشبيَة تآكلت من الذَر و لم يبق فيها سوى حجر صوَان أملس كان يُستعمل للتيمَمِ و بعض الأواني النحاسبة ،تقترب و تسحبُ إبريق الشاي و تحُكَ سطحه براحتها  فتُهيَجُ أكسدته التي كانت تبحث عن من يُطبطِبُ على جمالها المنسيَ ،كانت تُلمَعها بالليمون و الرَمل الخشن ثمَ تعرَضها لأشعَة الشمس في النافذة.
كم دخلكِ خُطَابُ و زبائن العنب و الزَبيب ،تدقَ على البلاط الأصفر : زوَجتُ ثمانية بنات ،ثمانيَة خطَاب و ثمانيَة ولائم جلسوا كلَهم على هذه الأرائك و صلوا على سجَادة الدَوم المُعلَقة خلف الباب أين ضحكاتهم؟ و أكفافهم المبسوطة و هم يرتَلون أمَ الكتاب ...آمين ؟ وقع أقدام الصَبية في الهجير فوق قرميدها و هم يجمعون ثمار التوت الأبيض من أعلى الأغصان ،يبست الأغصان و بقيت بعضها خضراءا في الأسفل غير قادرة على إنجاب الثَمار، و جدول النعناع تحت التوتة الذي أصبح مكانا تتجمَعُ فيه أكياس و قارورات البلاستيك حين تهدأ من شتات الرَياح ،تلك الثرايا كوجه القمر كم أضاءت من ليالي الختان و الأعراس و الوعادي يا دار يا تُحفة لم تستأصلها أيادي الكنَات اللتي استولين على كلَ شيء ، الكلَ دهس عتبة هيبة « الحاجَة» بعد أن أعياها المشيبُ و هجر كلَ أولادها إلى المدينة عدا واحدا و زوجته بنت الأصول التي بقيت تسكنُ معها ،تُدير وجهها إلى النافذة و قد عُلَق عليها مسبحة زوجها « سيدي» تُحاول فتحها لكنَها لا تقدر فقد قام أحدُهم بدقَ مسامير على خشبها ،ستار النافذة لا يزال يُحافظ على ألوانه بنيَ مصفرٌ تُزيَنه بذور الفلفل الأسود ،أهدابه الحنونة تُدغدِغ أنوثة عذراء زُفَت ذات ليلة عروسا و كان الستار أوَل قماش أخاطته و علَقته، ثمَ مزَقت قماش الأريكة المهترئ و نفشت الإسفنج الذي بداخلها ثمَ أخرجت كيسا صوفيا بداخله حلقُ و خيط جوهرِ خبَأتهما لابنها المعتوه الذي خرج و لم يعد ،لقد فرَقت كلَ مجوهراتها على أبنائها و بناتها كلَما زوَجت أحدهم زهَجته منه عدا ابنها المعتوه الذي لم تفرح بتزويجه و قد تضاءل أمل عودته مع الزَمن ،تصطفَ صُوَرُ أبنائها الخمسة و زوجاتهم و بناتها و أزواجهم و أحفادها ،كما يصطفَ سرب الحمام على خيط الكهرباء ينتظر كرم      « الحاجَة» عندما تنثر الحبَ لدجاجاتها ،تقفَ « لالَة» شامخة رافعة رأسها تشدَ وقفتها بخِزرانتها و هي تشعرُ بفخر إنجازتها لكن سرعان ما يُعاوِدها الإحساس بالتعب و قلَة الجهد فتعود إلى حافَة الأريكة و هي تشدُّ على خيط الجوهر و الحلق ، تدخلُ عليها كنَتها 
ـ « لالَة» و تمسحُ دمعا باردا متحجَرا في خندقي عينيها و تُحاور شعر ناظريها المخضَبِ بالحناء        ـ لا تقلقي « لالة» سأنظِّف الدَار ،دار الضياف .                                                               تردّ «الحاجّة»
ـ نعم إنَ الجسد يريد العودة إلى طينه ،أريد أن أموت على البلاط الذي مات عليه سيدك. 
 


تابعنا على
تصميم وتطوير