جريدة الزوراء العراقية

طريق الناي


فتيحة قادة / الجزائر:
الظلام دامس ، و المطر يهطل دون توقّف و البرد شديد يُجبر كلَ راجل أو زاحف أو طائر على الاختباء باكرا في وكره ...تبيت « غالية « تئَنُ و أمَها تدسَ الحطب في الكانون و تدفَئ وشاحها ثمَ تلفَه حول رأسها و هي ترتعشُ، و لما اقترب الصَبح نادت أمَها - قهوة قهوة أشتهي شرب القهوة ،غامرت الأمَ و خرجت توجَهت نحو البيت الكبير وجدت سيَده قد خرج بطاسه كي يتوضَأ للصلاة ،انسحبت في الظلام إلى حجرة الزاد و هي تتحسَسُ الشكائر - دقيق،زبيب ،سكَر ،بنَ، نهلَت من البُنَ و السكَر و عادت أدراجها ،صادفها كلب يستعرض نباحه أمام ضعفها ، هزمته بالطَوب ، هرعت إلى بيتها إلى شبه البيت و أحكمت غلق الباب الخشبيَ ،وجدت الماء يغلي في الكانون ينوح و يحاور أنين المريضة يخبر إبريقه عن عوده الذي سقاه منذ كان فسيلة حتى اشتدَ و من شدَة قوَته مات واقفا و هاهو اليوم يكويه غير مبال لنواجه ... أعدَت القهوة، أسندت ابنتها على صدرها و ناولتها كوبا ساخنا. ـ ما أحلى هذه القهوة من أين لك بها أمي ؟! ـ من رزق الله، ثمَ ناولتها كوبا آخر يُدفَئُ جسمها المرتعش، هدأت كطريح بات يجوب السَمت ذهابا إيَابا بين المقبرة و البيت بين فرشة الثرى و فرشتها المهترئة مرَة تحاورُ طيف أبيها المتوفَي و مرَة تحاورُ عيون أمَها التي تقبع عند رأسها .
توقَف المطر في الصباح و بزغت الشَمس كاشفة عن وجه الدَشرة الجميل ،تفتَحت بعض الأقحوانات المبكِّرة و انفجرت كتلُ العشب البريَ و تأنَقت قبَاعات الفطر هنا و هناك عند جذوع الأشجار و على تلال الرَوث، كما كشفت عن وجه عمَها القاسي،صاحب الدَار الكبيرة الذي نهل حقَّها و حقَ إخوتها اليتامى، دخل عليها ـ كيف أصبحت؟ و صفَق بيديه الوقحتين ـ لم أُحضر لكِ شيءا ـ لو أحضرت معك فقط لفَة تمر ليأكله إخوتي الجوعى ،أدار وجهه - الله يشافيك يا بنت خويا
ضحى، التمّ أعمامها و نساؤهم و أطفالهم حولها و هي تُحتضَر و ابنها الرَضيع يحوم حول صدرها، يبعده أحدهم ،تُشير بيدها – اتركوه، تناوله ثديها و تضع يدها على رأسه تستمتع بصوت الحليب و هو ينزل إلى بطنه الفارغ و المتعة ربَما كانت تخفَف عنها سكرات الرَحيل ... 
كبر « حمو» بين قسوة بعضهم و حنان بعضهم و شفقة بعضهم و تجاهل بعضهم للآخر ،يحشر نفسه مع جميع الصَبية، تحنَ عليه بعض الأمَهات و تتركه يقاسم أبناءهنَ االطعام و اللعب و تهزمه نظرات بعضهنَ فينكمشُ و ينصرفُ يبحثُ عن صبيَان آخرين يلعب معهم تحت الصفصافة الشامخة التي تحمل في علاها أعشاش اللقلق المهاجرة، و عندما يملّون من اللعب يروحون يرمون الطيور بالحجارة كي يصطادونها لكن دون جدوى، كان دائما في الصيف ينشغل بالرَعي مع رفاقه، يتسلَى معهم بجمع سيقان القصب البريَ وتحويله إلى آلة الناي حيث تسوَى القصبة و تُكوى بالنار و تُثقَبُ و تُزخرف حتى تُصبح نايا جاهزا للعزف، كان الممرَ المؤدَي إلى الأراضي الرَعوية ينمو على حافَتيه سيقان القصب البريَ الذي يصنع منه الناي فسُمَيَ بـ «طريق الناي» كانوا يتفنَنون في صنعه و العزف عليه، يتنافسون في ذبح أرواحهم الفتيَة فتتقاطر النَغمات الحنونة رذاذا باردا في هجير الرعاة و على رجليه الحافيتين و المجرَحتين بالعشب اليابس و يتصاعد بعضها إلى مسامع الطيور المهاجرة فتُطأطئ رؤوسها استجابة لهدوء الرَعاة ...
 كبر « حمُّو» أكمل دراسته و جاب ربوع الوطن ثم وصل إلى أعلى المناصب و أصبح كلَ من حوله ينتظرون إشارة منه كي يقولون له أمرك ،سكن القصور بدل شبه البيت و عايش آخر صيحات المدفآت بدل كانون جدَته ،تجَار التمور و البنَ يتمنَون خدمته، لكنَه لم ينس شبه البيت و شبه الباب اللذين اختفيا مع ذاك القهر عدا الصفصافة و طريق الناي لأنَ الممرَ هو العقَار الوحيد الذي ورثه عن والده ، لا يزال الرَعاة يمرَون منه ،ركب سيارته و اتَجه إلى ممرَ الحنين إلى شوقه النار، نار لايعرف وقودها كي يكفَ عنه و لا ماءها حتى يسكبه و ينتهي ، ركن سيارته و بقي يراقب الطيور المهاجرة فوق الصفصافة العجوز و كأنَها البارحة، لا تزال بتلك الرَائحة، الطيور تغرَد بأصواتها الجامحة ثمَ تحطَ،اندلق لحن الرَعاة و أصواتهم في جسده كماء دافئ من أعلى رأسه إلى حذائه الفاخر، أدخل يده إلى جيبه و أخرج القطعة المتبقَية من ذاك الصَبيَ الحافي، قرَبه إلى فيه و راح يعزف نغمات و يذرف دمعات و يجترَ لحظات لا يقوى على الخروج منها ،طأطأت الطيور رؤوسها باحثة عن مصدر العزف، خرج من سيارته الفاخرة و جلس على الأرض الرَمليَة، ربَع قدميه وواصل العزف و هو ينظر إلى الطيور المهاجرة التي تشبه أجدادها، شاهده صبية تقدَموا منه و سألوه عن اسم المقطوعة أجابهم - طريق الناي.


المشاهدات 1132
تاريخ الإضافة 2023/03/18 - 7:35 PM
آخر تحديث 2024/04/24 - 2:38 AM

طباعة
www.AlzawraaPaper.com