بعض الكتب تغنيك عن قراءة سبعين كتاباً، ومن الذكريات ما يغنيك عن عمر طويل لم يُتح لك أن تعيشه كما ينبغي، ولا أن تتعرف حق المعرفة على شخوصه الذين يشكلون علامات فارقة في زمانك وزمانهم، ولم تسمع أو تقرأ شيئاً كثيراً عن خباياهم ومواقفهم وطرائفهم، ثم يأتيك كتاب من صنف الإمتاع والمؤانسة ليقص عليك ما جرى على امتداد قرن كامل من الزمان، نصفه حصيلة القراءة العميقة الواسعة، ونصفه الآخر حصيلة المعايشة والتجربة والصداقات المؤثرة، وعلى هامشه يعود بك إلى حُقب تاريخية بعيدة وأسماء كبيرة في التاريخ والسياسة والثقافة، ويحكي لك أيضاً عن روحانيات الأماكن المقدسة التي شدَّ لها الرحال، ليقول لك باختصار شديد: هذه هي الدنيا، وهذا هو مسرح الحياة، وهذا هو الإنسان الكبير حيناً، الصغير أحياناً، وهذا هو حديث الحِبر الذي سكبناهُ ساخناً على أديم السنين.
وكتاب «سنواتُ الحِبر» يقدم لك المعرفة والإثارة بأسلوب المقال الممتع الموجز الذي برع فيه الكاتب الصحفي رباح آل جعفر بقلمه الباذخ لغة وأسلوباً وجمالاً وقدرة على ترويض الحوادث لتكون طوع يديه من دون تكلف أو اقحام، فتجد الأعشى وحسان بن ثابت وابن الرومي والمتنبي والتوحيدي إلى جانب المازني واحمد شوقي وطه حسين والعقاد وناظم حكمت والبياتي، مثلما تجد سقراط إلى جانب نيتشه وعبد الرحمن بدوي ومدني صالح. وللقادة والزعماء ايضاً ما يجمعهم في حبر السنين من نابليون وستالين وهتلر إلى رشيد عالي الكيلاني، وإلى جانبهم علي الوردي وعبد الحميد العلوجي وجلال الحنفي وعزيز السيد جاسم ويوسف نمر ذياب وعبد العزيز القديفي وعلي الخاقاني وغيرهم الكثير يقهقهون على أكتاف التاريخ وبين جنباته. وان كنتَ ممن يبحثون عن المُستَطرف والمُستَظرف من حكايات هؤلاء فإن حِبرُ السنين زاخر بها من حكاية ثورة يوليو في مصر التي بدأت عهدها الدستوري بضرب فقيه القانون الباشا عبد الرزاق السنهوري بالحذاء في دار القضاء، إلى مشاريع مظهر عارف الصحفية الخيالية في مقهى الكمال والحكايات الدمشقية لعبد الرزاق عبد الواحد وطالب القره غولي وياس خضر، مروراً بحكاية الشيخ جلال الحنفي الذي انتفض يوماً في وجه رباح لأنه قال للوردي حين سأله عن أحوال الحنفي بأنه حي يرزق : صحيح أنا حي .. لكني لا أرزق!.
كان آل جعفر قريباً إلى نفوس العديد من مشاهير عصره ومنهم علماء وشعراء وكتاب وأكاديميين وصحفيين وادباء وفنانين مع أنه من جيل غير جيلهم، فقد كسب قلوبهم برعايته لهم وحدبه عليهم، ومتابعته لأعمالهم وأفعالهم وأقوالهم، ومعرفته بأحجامهم، وتقديره لماكنتهم، وخبرته بدرجاتهم، فكان يحاورهم مرتقياً إلى أعمارهم، وهم الشيوخ وهو الشاب الذي كان يعي أن هؤلاء الذين يجالسهم- ويمازحهم أحياناً من دون أن يخلَّ بآداب الحديث مع الكبار أو يخدش شعورهم- هم من العملات النادرة والكنوز التي لن تمكث في الأرض طويلاً وفق الحسابات البايولوجية لأعمار البشر، لذك كان يراقب حركاتهم وسكناتهم وطرائقهم في الكلام والمزاح، ويكتب أو يحفظ في ذاكرته الطرية ما تيسر من اقوالهم وذكريات مجالسهم وطرائفهم، حتى إذا ما شدوا الرحال إلى آخرتهم، اكتشف كنزاً من جواهر الذكريات تحت وسادته، ومعها لآلئ مما اصطاده من قراءاته المتنوعة حول الرجال وسيرهم وآثارهم المكتوبة في بحار المعارف والآداب، فراح بعد تمنع وتردد طويلين يجمع تلك الجواهر واللآلئ وينظمها ويبعث فيها الحياة، ويستعيد معها سنواتُ الصحافة التي أخذت من شبابه خمس وثلاثون سنة، ومازال ينزف حبراً ساخناً على ورق الأيام. ولعله في مصاحبته ومجالسته الكبار أشبه بأنيس منصور في مجلس عباس محمود العقاد، فقد كان أنيس واحداً من أصغر المترددين على بيت العقاد في مصر الجديدة حيث يعقد صالونه الأدبي يوم الجمعة من كل أسبوع، وهو مجلس يضم كبار رجال والفكر والأدب والفلسفة في زمانهم، وقد احتفظ انيس منصور بذكرياته عن ذلك الصالون وانطباعاته عن مرتاديه وما جرى فيه من احداث ومفارقات ضمها كتابه « في صالون العقاد كانت لنا أيام» الذي صدر بعد ما يقرب من عشرين عاماً على رحيل العملاق. لكن رباح كان أقرب مسافة إلى الكبار الذين كتب عنهم، فهو لم يكن يجلس إلى جوار الباب كما كان يفعل أنيس في صالون العقاد كأي طالب صغير على الشاطئ مثلما يصف نفسه، بل كان يقترب منهم ويجالسهم مجالسة المريد والصديق، ولا يتردد في مجادلتهم وربما مناكفتهم واثارتهم ليخرجوا أثمن ما عندهم في قاعة درس، أو غرفة صحيفة، أو زاوية مقهى، أو رصيف شارع .
يوماً ما طلب حسن العلوي من رباح آل جعفر أن ينزل إلى جرف النهر في مدينة حديثة لأنه ترك أجمل ذكرياته في مقهى تظلها شجرة تويتاء كبيرة عند الجرف كتب على جذعها بيتاً من الشعر حين عُين مدرساً في ثانوية حديثة مطلع شبابه، فنزل رباح إلى النهر ولم يجد الشجرة، ولا بيت الشِعر، ولا المقهى، ولا البستان، ولا العلوي.
كتب العلوي في تقديمه للكتاب : رباح يشبهني، إنه يخرج شيطان الكتابة من أفواه القوارير.