رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
التشكيل والدلالة في قصيدة النثر: نص “بأي المجازات” للشاعرة الفلسطينية رحمة عناب أنموذجاً


المشاهدات 1290
تاريخ الإضافة 2022/08/17 - 8:37 PM
آخر تحديث 2024/04/13 - 7:40 AM

د. خالد بوزيان موساوي/ ناقد مغربي
النص: “بأي المجازات”
“بأي المجازات اجاري
عبارة الحضور
في ملحمة نصّ شاخص الإخصاب
حين تتورط
الحروف في احتساء كبرياء
فاتن اللهفة
لا يخشى لفتات
الغياب
يتأمل رسمك في مقتبل شوق أهوَج
مترف بحنين
لا تضنيه مآرب الانتظار
ينقش في وجهك
غيمة شغف
تقمع اليباس في ذاكرة الخريف
أتأمل يقين الرؤى
بعدسة فااارهة الحدْس
فهذا نذير يسعى
من أقصى الحب
لا يتّقي عهر المسافات
ولا احتراق العروق في احتضان الغياب
تأتيني أنفاسه
قوارباً تبتغي نبضات سابحة
يتعاظم في واحاتها
حشود توق متأهبة النداء
تهاجس عذرية الارتواء
أتّسع في ذروة افقك و ابتهج
ارتشف الفرح من رئة صوتك المغنّى
واتدثر بهدب الأناشيد
اتناغى على اجيج نصّك
فيقطر اليراع
جدولا يتوضأ
على حدودك متطهراً
ولا يتعثر
ولك انت
اعرّش يقيني جنّةً
داااااااااااائماً
على مستهلّ الفؤاد وترافقني شهيّة الاخضرار.”
يتمفصل النص بإيقاعاته الرئيسة الأولى حول مقولتين: الحضور والغياب. قراءة سطرية تقليدية قد تكتفي بأسئلة سطحية ساذجة مثل: حضور من؟ أو ماذا؟.. غياب من؟ أو ماذا؟.. وكأن الغاية من قراءة النص الأدبي هي التلصص على الحياة الخاصة للمبدع (ة)... بينما الأمر يتجاوز بكثير غائية الشاعر(ة) وأفق انتظار القارئ المولع بالقصص العاطفية ليندرج ضمن ظاهرة شعرية قديمة/ جديدة يسميها تودوروف جدلية الحضور in presentia والغياب in absentia.  ففي نظر النقاد “إذا أردنا أن نُنَزّل المصطلحين مدار الشعر فإننا نلاحظ أن الحضور يمثّل التشكيل والغياب يمثل الدلالة”. 
لذا اعتمدنا، منهجيا، مقاربة هذا النص الشعري انطلاقا من إيقاعته الثلاثة قد تقترب في تركيبتها السردية من “هرم فريتاغ”؛ وضعية الانطلاق ب “السؤال”، تجاه وضعية الذروة ب “التأمل”، وصولا إلى وضعية الانفراج.
1 ـ وضعية السؤال: هو السؤال عن سيناريوهات ممكنة للتشكيل؛ كأننا أمام حرقة سؤال فعل كتابة فوق أرجوحة ثنائية الغياب والحضور. سؤال كتابة يجعل من التشكيل مجموعة طقوس لاستحضار صُوّر ذهنية ووجدانية للغائب بقوة سلطة اللغة والبلاغة والخيال؛ لا غياب مع وجود النص الذي يتشكل انطلاقا من محفزين؛ الأول دعامته خطاب شعري ملحمي (“الحضور في ملحمة نص...”) بكل ما لمرجعية هذا الجنس الأدبي الدرامي من ميول للحماسية والفخر بالبطولات. هو “نص شاخص الإخصاب”؛ خصوبة تتجسد تشكيلا عبر تقنية توالد صُوّر شعرية موغلة في انزياحات المجاز بعيدا عن الكليشيهات المُستهلَكة تتسلسل كما حلقات عقد فريد؛ كل حلقة على شكل صورة بلاغية تعتمد من البديع محسنات الطباق (حضور/ غياب)، ومن البيان التشخيص البلاغي (“النص شاخص الإخصاب”/ “تتورط الحروف” / “كبرياء لا يخشى لفتات الغياب”/ “ينقش في وجهك”)./  ومن المعاني حقلا معجميا دلاليا داخل نفس الإطار المرجعي لثنائية احضور / الغياب (“اللهفة”/ “شوق”/ “حنين”/ “شغف”/  “يباس”/ “خريف”). أما المحفز الثاني فدعامته سيكولوجية وجدانية تشكل طاقة داخلية تنفي فكرة الغياب باسم الكبرياء (“حيث تتورط الحروف في احتساء كبرياء فاتن اللهفة لا يخشى لفتات الغياب”). وكأننا أمام تشكيل يجسد عبر عملية تنافي أقطاب متناقضاته مربعا سيميائيا كما نَظَّر له غريماس، لكن الإضافة المبتكرة في هذا النص البديع لرحمة عناب كونه حوّل الغياب إلى حضور ذهني عبر الاستحضار بالحرف والخيال الشيء الذي يقربنا من عوالم شبيهة بطقوس تعويذة السحر لاستحضار الذوات الغائبة، وفي سياقنا بقوة اللغة الشعرية التي تبرع في ترويضها الشاعرة رحمة عناب.
2 ـ وضعية التأمل: في الفقرة الثانية من النص يتغير إيقاع القصيدة لينتقل الخطاب منهجيا ونوعيا من السؤال (“بأي المجازات”؟ الفقرة الأولى) إلى خطاب التأمل (“أتأمل يقين الرؤى” الفقرة الثانية)، فتنتقل درجة التلفظ بذلك، باستعمال ضمير المتكلم “الأنا”/ الذات الشاعرة، إلى “التبئير” الداخلي (أي رؤية الشاعرة، وليس النص مًجَسّدا عبرها كما في الفقرة الأولى)؛ لكن وكأن الأمر يستوجب جناسا وظيفيا تتحول “الرؤية” (وهي حسية/ حركية تخص حاسة البصر إلى “رؤيا” (“أتأمل يقين الرؤى” ؛ أي ما يُرى في المنام؛ أي بالحواس الباطنة كالخيال والحلم والفراسة والحدس والتنبؤ؛ وهو موضوع التأمل في هذه الفقرة من النص؛ مدى يقين الرؤى. وفعلا تطلق الشاعرة العنان لنبوءات الوجدان ليتحقق الحضور هذه المرة عبر “الحدس” (“بعدسة فااارهة الحدْس” ؛ يرسم في مخيال الذات الشاعرة صورة الحاضر وَهْماً (الغائب فعلا) بقوة سلطان العشق والشغف، قادر على تخطي مسافات البعد ويتشكّل في صورة “نذير حب” مستغرق في الاقتراب دافعه “الارتواء” عشقا كما “ حشود توق متأهبة النداء تهاجس عذرية الارتواء”.
3 ـ وضعية الانفراج: وكأن النبوءة بفعل الاستحضار بالكتابة أولا (الفقرة الأولى)، وبفراسة الحدس ثانيا (الفقرة 2) قد تحققت في مخيال الشاعرة يقينا، تدعونا الشاعرة رحمة عناب منذ مستهل الفقرة الثالثة من النص إلى رحلة سفر بين ثنايا الحرف لمشاركتها طقوسها الاحتفالية في رحاب البهجة (“أبتهج”)، والفرح (“أرتشف الفرح”)، والغناء (“صوتك المُغَنّى”)، والأناشيد (“هدب الأناشيد”)... تغرينا باختيار أربعة أفعال في المضارع تحاكي بضمير المتكلم “الأنا” حالة الانفراج عبر تشكيل لوحات فنية (صوّر شعرية) متفردة بلاغيا تتناغم وذروة الحدث (“أتسع في ذروة أفقك” + “أرتشف الفرح من رئة صوتك” + “ اتدثر بهدب الأناشيد” + أتناغى على أجيج نصك”). هي أفعال حركة ملموسة تحيل على انتشاء حواس ظاهرة بعوالم مسموعة (“صوتك”، و”أناشيد”, أجيج”)؛ لكن سرعان ما يتغير الإيقاع في النص لغة وبلاغة ودلالات بمجرد انتقالنا للجملة الموالية (“فيقطر اليراع”) إذْ يتفاجأ القارئ أن لا حضور تمّ ولا لقاء؛ أنه فقط سافر مع الشاعرة في رحاب القصيدة إلى عوالم أثثت فراغا بالتشكيل الفني عبر طقوس شبيهة بقداس تُقام فيه صلاة استحضار للغائب هي ذاتها تتحول إلى إلهام للكتابة كما يؤكد لغويا ودلالة استعمال “فاء السببية” مقرونة بفعل “يقطر” في جملة “فيقطر اليراع”... وكأن النص انتهى من حيث بدأ (“شهية الاخضرار” في السطر الأخير من النص تقابل “شاخص الاخصاب في السطر 3 من النص)، وكأن تيمة الغياب في جوهرها بالنسبة للشاعرة مجرد هاجس/ دافع/ حفز لكتابة الشعر حيث الحضور يمثّل التشكيل والغياب يمثل الدّلالة.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير