رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
رواية «الوجه الآخر للضباب» للروائي كريم صبـح


المشاهدات 1192
تاريخ الإضافة 2022/06/22 - 8:11 PM
آخر تحديث 2024/03/28 - 5:49 PM

حميد الحريزي 
الرواية مسيرة حياة
أن تكتب رواية يعني انَّك تكتب حياة أو على الأصح تصنع حياة بمعنى انَّك تخلق حياة  الناس وتقاليدهم وأعرافهم..
أما أن تكتب حياة بلد ليس بلدك فبمعنى أن الروائي استطاع أن يتغلغل في عمق حياة هذه الشعوب، كما انَّه اطلع على المعالم الحضارية والعمرانية المميزة في هذه البلاد، ربما لم يلتفت إليها ابن البلد نفسه، ورواية (الوجه الآخر للضباب) هي الوجه الآخر لروسيا بلاد الثلوج والضباب مجسدة من خلال الشخصية الرئيسة في الرواية الفتاة ((روزالين– أيفا)) سورية الأب (ثروت) روسية الأم (كرستينا)، التي عاشت في قرية (بلاشفا) في مدينة سان بطرسبورج (لينينغراد سابقا)، وكذلك في دمشق عاصمة سوريا العربية.
يستعرض لنا الروائي عبر شخصياته التحولات الجارية في الاتحاد السوفياتي بزعامة غورباتشوف وشرذمة وتخلل وتحلل الاتحاد السوفياتي السابق في ظل حكمه، وهي ثيمة روائية ربما لم يسبق استخدامها من قبل الروائيين العراقيين والعرب.
 انقسم المجتمع الروسي على وجه الخصوص بين رافض لهذا النهج من قبل الشيوعيين ومثلهم اللواء المتقاعد اندريه وزوجته الكونتيسة وعدد من أبنائه، وآخرين مؤيدين لنهجه في ما أسماه (البروسترويكا) من عشاق البريق الرأسمالي الأمريكي والعالم الغربي عموما.
كما أوضح لنا الروائي اعجاب الكثير من الروس بشخصية (فلاديمير بوتين) حاملة أحلام عودة روسيا، الذي يحاول أن يعيد إلى روسيا هيبتها وجبروتها التي مرغها في الوحل يلتسن وغورباشوف، كذلك الإشادة بموقفه ومساندته لسوريا الدولة العربية التي تكالب عليها الاشقاء قبل الغرباء بقيادة عربان الخليج وأمريكا الرأسمال والاستغلال راعية الصهيونية العالمية الممثلة بإسرائيل.
استطاع الروائي أن يوائم بين روسيا بوتين وسوريا الأسد من خلال علاقة الحب من النظرة الأولى بين كرستينا الحسناء الروسية ابنة الجنرال الشيوعي الروسي المتقاعد ومدللته وزوجته الكونتيسة من أصل الماني والشاب السوري (ثروت) الدارس والمؤرخ والباحث في جامعة روسيا، هذا الحب الجارف الذي تكلل بالزواج ونجم عنه ولادة (روزالين)، بعد فترة من برود العلاقات بسبب علمها زواج ثروت من ميساء العربية السورية وله منها ثلاثة اولاد، وقد كانت ولادة قيصرية مؤلمة وصعبة، وكأنها إشارة من قبل الروائي إلى صعوبة تلاقح حضارتين وثقافتين مختلفتين مما عسر الولادة وجعلها قيصرية، ولم تتم بنجاح إلا بعد نقل دم ليمد هذا الوليد الهجين بالحياة..
روزالين.. فتاة بين ثقافتين
الطفلة روزالين تعيش أغلب الوقت في رعاية جدها وجدتها اللذين يحبونها حباً جماً، الطفلة الجميلة النسخة طبق الأصل من أمها الحسناء (كريستينا) التي عانت بعد الولادة من مرض أودى بحياتها تاركة صغيرتها بعد أن ائتمنتها خالها الأقرب إلى قلبها (اندريه)، وقد ألبستها تميمتها العذراء التي علقتها في رقبتها قبل أنْ تفارق الحياة لتكون حارستها في حياتها، وبذلك فقدت روزالين أمها وحضور والدها، كما افتقدت كثيراً كلب جدها ((ايفين)) الذي مات متجمداً وسط ثلوج الغابة..
يقرر والدها ثروت أنْ يصطحبها معه إلى سوريا لتعيش قريبة منه ولتتشرب بثقافته العربية الإسلامية، ولتكون أمام عينيه كونها تمثل صورة حبيبته كرستينا التي اختطفها الموت من أحضانه، وعلى الرغم من ممانعة روزالين وجدها وجدتها وأخوالها وعلى وجه الخصوص خالها أندريه، إلا أنَّ ثروت كسب الجولة بعد أنْ هددهم بالقانون الذي يضمن له حق رعاية  طفلته..
لم تعش روزالين حياة هانئة وسط عائلة ثروت في دمشق، فقد ناصبتها زوجة أبيها (ميساء) التي اسمتها بالحيزبون العداء، وقد تنمر عليها الاشقاء الثلاثة متفاعلين مع موقف أمهم، مما جعلها تعاني الكثير، وتذرف دموع الألم وحيدة في غرفتها المغلقة، وفي ظل تهاون وعدم حزم الأب وخضوعه لإرادة زوجته ميساء..
إنَّها إشارة إلى الفرق بين الحضارة والثقافة الروسية في التعامل مع الاطفال وفي عدم التمييز على أساس الجنس والدين والقومية وبين الثقافة العربية، وعلى وجه الخصوص الهيمنة الذكورية وبسط هيمنتها على الفتاة ومعاملتها بعنف ودونية ومن دون رحمة..
كانت تبث همومها لضريح افتراضي شيدته لأمها في مقبرة المدينة بعد أنْ أقنعت والدها بالفكرة ودون علم زوجته ميساء وأولادها..
اجبرت على دراسة الهندسة بدلاً من الانكليزية التي كانت خيارها المفضل بناء على رغبة (ميساء) التي كانت تريد أن تتفاخر زوراً وكذباً بأنها وراء التفوق العلمي للفتاة، وعلى الرغم من إصابتها نتيجة قصف الإرهابيين إلا أنَّها تخرجت بتفوق من كلية الهندسة عند دراستها في الجامعة الامريكية في بيروت بعد تهديم دارهم بسبب القصف وخطورة البقاء في دمشق..
بفعل إتقانها للغة الروسية والانكليزية والعربية وبمساعدة الحبيب الافتراضي الدبلوماسي العربي، شغلت منصباً إدارياً في منظمة اليونسكو الروسية السورية.. وأخذت تتنقل بين موسكو ودمشق..
أغلقت أبواب عاطفتها بوجه جميع من أعجب بها من الزملاء والمعارف خوفاً من عقاب الأشقاء تجاه أية علاقة عاطفية بين الفتاة والجنس الآخر ضمن ثقافة البداوة العربية المتزمتة، فقد قررت أن تعيش علاقات عاطفية افتراضية مع طيار سوري محاصر في قاعدته من قبل إرهابيي الدواعش، وفي النهاية قتل من قبلهم مع عجز السلطات السورية عن انقاذه وتأخر وصول القوات الروسية لخلاصه..
عاشت علاقات غرامية متقطعة ومتأرجحة مع الدبلوماسي العربي دون أن تحسم أمرها، على الرغم من تعلقه الكبير بها ومساعدتها في اكثر من موقف..
من خلال تعاملها مع أطفال الشهداء والمخطوفين ضحايا الحرب والإرهاب في سوريا وفق مسؤوليتها في منظمة اليونسكو، فتقرر أن تتبنى ثلاث فتيات، لتكون بمنزلة أمهن بالتعاون مع المحسن الثري السوري (ناظم) الذي فقد عائلته نتيجة الحرب، والذي جعل من منزله الخاص سكناً للأطفال والإنفاق عليهم ورعايتهم.
وقد حصلت روزالين على حرية التصرف والقرار بعد أن قرر والدها وزوجته واولاده الهجرة إلى دولة خليجية والعيش فيها هرباً من الحرب والحصار.. في حين تقرر هي البقاء للعيش في دمشق مع بناتها الثلاثة، واستئناف علاقتها الافتراضية مع الدبلوماسي العربي، وهي إشارة من الروائي إلى مستقبل روزالين قد تتوج هذه العلاقة بالزواج من هذا الحبيب الافتراضي وامكانية تحوله إلى واقع معيش..
الحبكة وأسلوب السرد
اسلوب السرد الروائي من خلال الراوي العليم وضمير الـ (هو)، وقد كان الروائي موفقاً في صياغته السردية وحياكته لنسيج الرواية بأسلوب وشكل ممتع جميل ومكثف، لم تكن الصياغة بشكل خيطي تسلسلي حيث ابتدأ الرواية من حيث انتهت حيث تستقر (ايفا- روزالين) في دمشق وتتبنى البنات الثلاث في موقف إنساني نبيل..
-استطاع الروائي أن يصطحب القارئ في جولة مكانية زمانية متحركة ومتنوعة بين دمشق وموسكو وبيروت وبطرسبورغ وقرية بلاشفايا...
- تمكن أن يبسط أمام القارئ أعراف وتقاليد الشعب الروسي في المدينة والريف حيث الحضارة العريقة والتسامح الديني والقومي بين شعوب الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا في الوقت الحاضر، بالمقارنة مع ثقافة التمييز على اساس الجنس والدين والقومية السائدة في المجتمع السوري العربي الاسلامي بشكل عام.
-رسوخ قيم ومبادئ الشيوعية في ضمائر وحياة ووجدان الكثير من المواطنين الروس، وعلى وجه الخصوص من كبار السن وبعض الشباب الواعي، حيث يوصف منزل الجنرال كالتالي ((إن روح الشيوعية تشاطرهم بيتهم، لوحة المنجل والمطرقة زينت مدخله، وعلم احمر يتوسطه الاثنان ونجمة خماسية شغل مكاناً بارزاً على أحد جدران الصالة، المجسمات الخشبية للينين توزعت على أرجاء المنزل))ص28.
- دار بنا الروائي عبر شخصية ثروت وابنته في العديد من الكنائس والمتاحف والساحات العامة وحتى الجوامع في موسكو، حيث التسامح في كل شيء والاهتمام الكبير في الفن والثقافة والادب والمعمار.. في حين وضع أمام أنظار القارئ ترسخ بعض سلوكيات الكراهية واحتقار الاديان والقوميات الأخرى من قبل العديد من العرب إن لم نقل أغلبهم، كما هو الحال بالنسبة لعائلة ثروت في دمشق، ثقافة الهيمنة الذكورية كثقافة سائدة في العالم العربي، كذلك حالة العداء والصراع الدموي بين العرب حد القتل والخراب والاستقواء بالأجانب ضد أبناء قوميتهم وجلدتهم، كما هو حال تحالف العربان ضد الشعب السوري والسلطة السورية بدوافع طائفية نتنة وعقوبة للنظام السوري الذي رفض الركوع امام اسرائيل ورفع التطبيع معها، فأمد العربان المنظمات الارهابية بالمال والسلاح والدعم الاعلامي لخراب سوريا بالتخادم مع امريكا واسرائيل وتركيا ضد اشقائهم العرب..
-على الرغم من أن الرواية كتبت وطبعت قبل الحرب الروسية الاوكرانية وتصدي الروس بقيادة بوتين للمخطط الامريكي لتفتيت واضعاف روسيا كمنافس رأسمالي قوي لأمريكا وغير تابع لهيمنتها.. فإنه أوضح للقارئ إعجاب المواطن الروسي بقيادة بوتين كونه بطلاً قومياً ووطنياً مخلصاً يحاول ان يعيد لروسيا هيبتها، وها نحن نشهد اليوم تصدي الجيش الروسي بقيادة بوتين لحلف الناتو والنازية الاوكرانية الجديدة وانتصاراته الكبيرة ضد تمدد حلف الشر والعدوان، مما سيدمر اسطورة القطب الواحد بقيادة امريكا وبزوغ نظام عامي جديد متعدد الاقطاب وحتمية انهيار امبراطورية الرأسمالية المتوحشة واسطورة دولارها الزائف.
-بفنية عالية استطاع الروائي أن يجسد لنا شخصيات الرواية الرئيسة على وجه الخصوص عبر توصيفها الدقيق من حيث الشكل والسلوك والحركات، بحيث تعلق صورتها مجسمة في ذاكرة القارئ وهذا أمر مهم  ومن مستلزمات ومواصفات الرواية الناجحة الحديثة، فمثلاً حين يصف  كريستينا ((ليست كريستينا ذات السبع والعشرين ربيعا فتاة عادية، هي ابنة اللواء الوحيدة ومدللته، شعرها ذهبي مسترسل، عيناها زرقاوان براقتان، ووجهها دائري ببياض تشوبه حمرة، أنفها مستقيم متناسق ـ شفتاها مثاليتان جماليا:- الشفة العلوية النحيلة المقوسة نحو الشفة السفلية عند المنتصف، والشفة السفلية التي بلغ حجمها ضعف حجم الشفة العلوية، الرقبة  الطويلة التي منحت صدرها ووجهها مدى متميزا، المزدانة دائما بتميمة (السيدة العذراء)..)) رص31، وهنا يترك لدى القارئ قناعة شبه كاملة بواقعية الرواية ويجسم شخصياتها.
- دقة توصيفاته للكثير من الأماكن والتعريف بعادات الشعب الروسي بشكل لافت للنظر، ولا أدري هل عاش الروائي في روسيا وفي سوريا؟!
- الرواية انصفت الشعب الروسي والحكومات الروسية من خلال موقفها وموقف الرئيس فلاديمير بوتين منتصراً للشعب السوري ومحاربته للإرهاب والتآمر الامبريالي الامريكي الصهيوني ضد الشعب والنظام السوري الذي  اصطف مع قوى المقاومة ضد التطبيع الامريكي الصهيوني وهيمنته على مقدرات الشعوب الرافضة للاستغلال والاحتلال.
-هناك سؤال بسيط ألا وهو الدافع وراء تصرف ثروت وتغيير اسم ابنته روزالين إلى ايفا؟
-أرى أن الرواية تمثل ثيمة مبتكرة تغني تلاقح الثقافات والعلاقات بين الشعوب، وتدعو إلى ثقافة التسامح والتنوير ونبذ التعصب والكراهية على أساس القومية والعرق والجنس والدين، فالرواية إضافة جيدة للرواية العراقية والعربية.


تابعنا على
تصميم وتطوير