رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
تجليات التناص الديني والميثولوجي في مجموعة (وحيدان أنا وظلي) لنبيل نعمه


المشاهدات 1093
تاريخ الإضافة 2022/01/12 - 7:44 PM
آخر تحديث 2024/03/13 - 2:44 AM

أحمد   الشطري
يشكل الموروث الديني والميثولوجي بكل تجلياته أحد أهم المصادر التي تظهر آثارها جلية في المنتج الإبداعي الأدبي، باعتبارهما منجما ثريا ينفتح على فضاءات واسعة تساهم في تعميق المدلول واتساع دلالته. وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن التناص الديني يشكل ظاهرة بارزة ومهمة لدى الشعراء المعاصرين، وبكل تجلياته القصدية واللا قصدية، وسنحاول أن نتلمس بعض التناصات وأثرها الدلالي والجمالي في قراءتنا لمجموعة الشاعر نبيل نعمه ( وحيدان أنا وظلي) الصادرة ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2020، والتي عرفها بأنها( قصيدة نثر)، وقد قسم الشاعر قصيدته إلى واحد وخمسين مقطعاً.
ففي المقطع (التاسع) وفي الصفحة (18) يقول:
(روحُكَ أثرُ عصفور
مرّ سريعا فألهمها أن تطير...)
وهنا نجد تناصين أحدهما ديني والآخر ميثولوجي، اذ يتمثل التناص الأول في تعاقه مع الآية القرآنية في قوله تعالى:{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه : 96].
إذ نجد في القصة المرتبط بهذه الآية أن ذلك الأثر ألهم السامري القدرة على صناعة العجل ذي الخوار، بينما نجد أن الأثر لدى الشاعر هنا ألهم روحه أن تطير. وكلا الإلهامين يمثلان فعلا خارقا للمألوف.
أما التناص الثاني فيمثل تعالقا مع الموروث الشعبي القديم بأن أرواح الأموات تعيش في حواصل الطيور.
وفي ذات المقطع نجد تناصا مع قول الرسول محمد (ص): الجنة تحت اقدام الأمهات إذ يقول:
(وأنت تَمُرُّ بشجرة... كنْ ظلها قبل جذورها/ فالجنة تحت الأشجار.)
وبالإضافة إلى تناص هذا المقطع مع الحديث النبوي وهو تناص قصدي متأت من فعل واع، هناك تناص آخر غير واعٍ مع قول ابي محجن الثقفي:
         إذا متُ فادفني إلى جنب كرمةٍ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها
إلا أن تناص نبيل هنا تناص عكسي إذ يطلب أن يكون ظلاً للشجرة قبل أن يمتزج جسده بالتراب الذي تحت الشجرة فتمتصه هي لترتوي وتحيله إلى جذر وليس لتروّيه كما عند أبي محجن.
في المقطع العاشر في الصفحة(20) يقول:
(من يعيدني؟
حبلي السري مازالَ في أرضٍ حرام)
إذ نجد هنا ثمة تناص مع الموروث الميثولوجي والذي بقي متأصلا في اعتقادات العامة حتى وقت قريب، والذي يشير إلى أن الإنسان سيظل مصيره مرتبطا بالمكان الذي يُلقى به حبله السري. إذ نجد الشاعر هنا يستخدم هذا التناص للدلالة على معاناة الانسان العراقي مع الحروب المتكررة.
وفي المقطع الحادي عشر في الصفحة(21) يستخدم مفردة (سَبَت) في قوله:
(كمن نوى على سفرٍ/ سَبَتَ في مكانهِ/ فاستيقظَ فيهِ مكانٌ آخر)
وهنا نجد تناصاً مع قوله تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف : 163].
وهؤلاء الذين يتحدث عنهم القرآن هم أهل قرية على البحر كانوا يعتدون يوم السبت الذي هو يوم راحة وعبادة وقد حرم عليهم فيه الصيد. فاختبرهم الله بأن جعل الحيتان تظهر على سطح الماء يوم السبت فلما اعتدوا وقاموا باصطيادها عاقبهم على ذلك. وفقا لتفسير الجلالين.
ونجد هنا أن التناص مع هذه الآية يظهر الشاعر في حالة( السبات) ليكون جزاؤه أنه يستيقظ في مكان آخر ربما هو المكان الذي نوى السفر إليه. وهو دلالة على الطاعة التي وصفها بـ(لعنة الاكتمال) رغم اعتقاده بأن ذلك (تناقص) كما يشير في الأسطر التي سبقت السطر الذي تحدثنا عنه.
وفي المقطع السابع والعشرين في الصفحة (48) نجد هناك تناصا مع قصة يوسف في موضوعة القميص الذي أعاد البصر لأبيه إذ يقول:
(وكنتُ قميص المدينة/ وعيون أبي المأهولة بالدموع)
وفي هذا التناص يرسم لنا الشاعر صورة لعمق الترابط بينه وبين مدينته، التي يمنحها شخصية يوسف بينما يحتفظ لنفسه بصورة يعقوب الذي ذهب بصره من فرط البكاء على فراق ولده. هذه المتلازمة بين يوسف ويعقوب تكاد ان تكون صورة مهيمنة في كثير من نصوص الشعراء بيد أن نبيل هنا منحها انزياحا لتتحول للعلاقة بين ما هو مادي وما هو انساني.
وهناك ثمة تناص مع الموروث الصوفي والعرفاني في قوله:
(أنا العلامة مع الحرفين ... طريقتك المولوية في الكتابة/ تجعلني أدور كسورة ماء/حتى يخيل لي أن قطب الأرض/ نقطة ٌ فوق نون.)
نلحظ في قوله(أنا العلامة بين القوسين) تناصا مع القول المنسوب للإمام علي بن أبي طالب(ع):» ... وكل ما في الباء في النقطة وأنا النقطة تحت الباء» ووفقا لتفسير العرفانيين (أن النبي(ص) كالباء وعلي كالنقطة تحتها، والباء لا تتعين إلا بالنقطة، كما أن النبوة لا تكتمل إلاّ بالولاية). ومن هنا ينطلق تناص الشاعر باعتبار أن العلامة بين القوسين تدل ما هو مهم يراد الانتباه له أو أنه اقتباس للتدليل على أمر أو تعضيد راي. ثم يذهب إلى تناص آخر يحيلنا من خلاله إلى أسرار الحرف (نون) عند المتصوفة والعرفانيين والسحرة أيضا، وبالنظر في قوله (قطب الأرض نقطة فوق نون) باعتبار أن النقطة هي مركز الكون الذي تدور حوله الموجودات أو بدلالتها الشكلية التي تشبه الرحم وتشكل النقطة الجنين المتكون فيه. 
وفي المقطع السابع والعشرين في الصفحة (49)، يقول: (وكنتُ من الغاوين/ أوغل في الشعر غريباً) وهو تناص مع قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء : 224].
إشارة إلى تعلقه بالشعر.
ويقول في المقطع الثلاثين في صفحة (56): (أضرمت ناراً بالمسافة من أجل لقاء) وهنا نجد ثمة تناص مع قوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه : 10]
نلاحظ أن التناص هنا يتعلق بالجانب السببي للقاء، باعتبار أن النار هي التي كانت سببا بلقاء موسى مع ربه، وتكليمه. 
أن التناصات التي انطوت عليها مجموعة نبيل نعمه هذه لم تكن تناصات مباشرة مع النصوص المتناص معها بل جاءت عن طريق علاقات تراوحت بين السببية و الدلالية والتوليفية وهو ما ساهم بامتصاص تلك النصوص وإذابتها في مجرى النص المُنشأ وتحويلها إلى مرموزات أضافت للنص أبعادا دلالية وعمقا معنويا ورافدا جماليا مضافا إلى ما اكتنز به من جماليات أخرى. 
إن ما ذكرناه من تناصات في قراءتنا هذه للنص هي مجرد إشارة تمثيلية وليس حصرية، فالنص يحمل العديد من التناصات التي تحتاج إلى استقصاء وتحليل أكبر مما يسمح به المجال هنا.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير