جريدة الزوراء العراقية

السودان.. حل بين اثنين لا يصح لهما ثالث


مساعي الحوار بين الأطراف السودانية التي ترعاها الأمم المتحدة لن تنجح، لأن أحدا لا يعرف ما هو “الحل الوسط” الذي يمكن للجميع أن يقبلوا به، ولأن الثقة معدومة بين كل الأطراف.
الجيش، بمنتهى الصراحة، يريد البقاء في السلطة باعتباره “حامي الحمى”. ويريد قادته أن يفلتوا من الحساب عما ارتكبوه من جرائم. ويريد أن يحتفظ ضباطه بـ”حقهم” في تدبير انقلابات في أي وقت يشاؤون.. ويريد أن يحتفظ بـ”إدارة بعض الموارد”، ومنها مناجم الذهب، لأغراض التهريب بالدرجة الأولى.. ويريد قادته أن يكونوا طرفا في بناء تحالفات جهوية وقبلية تؤسس لهم نفوذا يساعدهم على الزعم بأنهم على علاقة وثيقة بـ”الجماهير”.
الطرف الآخر، المدني، ليس على وفاق مع نفسه.. ولسوف تحتاج الأمم المتحدة، لكي تنجح في مهمتها أن تسألهم: ماذا تريدون؟ فبعضهم يريد أن يعلق المشانق لقادة الجيش في الشوارع.. وبعضهم الآخر يريد نظاما ديمقراطيا من دون أن يعرف ما هو.. وبعضهم يريد سلطة مدنية، ويحتفظ بحقه في عدم الاعتراف بها. وبعضهم يعتقد أنه أحق بالسلطة من غيره.. وحتى إذا اتفقوا على شيء، فهم يريدون أن ينقلبوا على ما اتفقوا عليه في وقت لاحق.
هذه الأطراف تجيد الكلام عن الحريات والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، ولكن بشرط أن يحتفظ كل واحد منها بحقه في خيانة الحريات والديمقراطية والتعددية عندما يتضح أنها تضره، وأن يعود ليتحالف مع الجيش، ليدبّر انقلابا مشتركا للإصلاح أو لإصلاح الإصلاح، أو لإعادة بناء الديمقراطية.. إلخ. لاسيما وأن كل طرف يعتقد أنه أفهم من غيره لمشاكل السودان، وأنه قادر على حلها.
المشكلة التي سوف تعانيها الأمم المتحدة، تبدأ من كونها طرفا “مستمعا”.. أي أنه طرف مضطر لسماع وتسجيل ما تقوله هذه الأطراف.. بينما اللعبة ليست فيما يقولون، ولكنها في ما يتدبرون ضد بعضهم البعض من خارج الأقوال التي أسمعوها للوسطاء الدوليين.
تاريخ الانقلابات في السودان يثبت فشل كل الاتفاقات الديمقراطية. كما يثبت فشل كل الأحزاب في التقيّد بما توّقع عليه، ويثبت أن سلطة العصابة، أيا كانت، عسكرية أو مدنية، هي وحدها التي يمكنها أن تحكم هذا البلد
وهؤلاء الوسطاء المساكين لن يسمعوا من الكلام الجميل والتعهدات الطيّبة إلا ما يجعلهم يعتقدون أن الأزمة سوف تنحل بعد خمس دقائق. وهم، كلما خرجوا من حوار مع طرف، وجدوا أنه ديمقراطي إلى العظم، وأنه لا توجد في الحقيقة أي مشكلة بين كل الأطراف، وأن مزاعم وجود خلافات حول أسس بناء دولة حديثة، إنما هي من وساوس كائنات غير منظورة. ولكن لا تعرف كيف تغلب النزاعات من جديد بين أولئك الذين لم يقولوا إلا القول الجميل.
وقد يمكن التوصل إلى اتفاق على “مبادئ”، هي من جملة ما قد يتم جمعه من أقاويل، إلا أن شيئا ما سوف يحدث لكي يجعل السير على هداها مستحيلا، فيأتي عبدالفتاح البرهان هذا، أو واحد آخر مثله، ليقول إنه يريد الإصلاح، فيعتقل الحكومة، ويلغي اتفاق المبادئ، وتعود البلاد لتدور في الحلقة المفرغة نفسها.
السودان، في تنوع مشاكله، وجهاته، وقبائله، وفصائله، لا يستطيع أن يجتمع على كلمة واحدة. ولا يعرف ما هو “الحل الوسط”، ولا من أين يبدأ. وثمة اعتقاد ساذج، هو السائد بين كل الأطراف السودانية، يقول إن تجربتهم البرلمانية هي السبيل الوحيد الذي يمكنه “إنقاذ” البلاد، بينما أثبتت الوقائع أن هذه التجربة نفسها هي أم الفشل وأبوه.. فلقد كانت على الدوام تجربة فوضى وتناحرات حزبية وجهوية وقبائلية، وذلك إلى درجة تجبر المرء على أن يتساءل: هل توجد لدى هؤلاء الناس أعينٌ يرون بها، أم أنهم عُميٌ صُمٌ بُكمٌ لا يفقهون؟
رئيس البعثة الأممية في السودان، فولكر بيرتس، قال إنه يزمع “إطلاق عملية سياسية بين الأطراف السودانية من أجل الاتفاق على مخرج من الأزمة السياسية الحالية. وأن العملية تشمل الحركات المسلحة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والجماعات النسوية ولجان المقاومة”.
لا داعي للضحك.. ففي الواقع، فهذا ما ظل يفعله رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك لنحو سنتين حتى ضاق به الذرع.. ولا أحد يعلم ما هي المواهب التي يملكها بيرتس وتفوق على ما يعرفه حمدوك، أو ما هي الوثيقة التي يمكن التوصل إليها غير الوثيقة الدستورية التي اجتمع عليها الجميع، قبل أن ينقلبوا عليها وعلى بعضهم البعض.
ولا أحد يشك بنزاهة حمدوك، أو باستقلاليته أو بوطنيته، وهو أفهم وأدرى من بيرتس بمشاكل السودان وتعقيداته بعشرات المرات.. ولكن فاض به الكيل.
سوى أن بيرتس يملك ما لا يملكه حمدوك، وهو أنه “خواجة” وعيناه زرق.
وهناك حلان جديران بالاعتبار يمكن اللجوء إليهما، ولا يصح عليهما ثالث.
الأول، ترك السودانيين يتنازعون إلى يوم يُبعثون، وهذا هو في الواقع ما ظلوا يفعلون منذ 66 عاما. وبالتالي، فما المشكلة لو ظلوا على حالهم 66 عاما أخرى. ولو أمكن أن يكتبوا تعهدا بعدم القيام بأعمال إرهاب في الخارج، فلربما صار من الجائز تزويدهم بالسلاح لكي يخوضوا حربا أهلية طاحنة ضد بعضهم البعض. كل الشعوب المتحضرة خاضت حروبا أهلية.. صحيح أن سفك الدماء لم يعد ضروريا بعد كل ما حصدته البشرية من دروس. ولكن ما علاقة السودانيين بهذه الدروس؟ هل تعلموا أي شيء من تجاربهم الخاصة، لكي يتعلموا من تجارب غيرهم؟
والثاني، هو أن يخضع السودان لسلطة انتداب دولي، ريثما يعرف السودانيون ما هو الحل الوسط، وكيف يحصلون على ضمانات بتنفيذه، وكيف يمنعون الجيش من الاشتراك بأي عمل سياسي، وأن يكف قادته عن الاعتقاد بأن “الجماهير” تحبهم. بل أن يكفوا عن إقامة روابط من أي نوع مع “الجماهير”، فهذا من شغل الأحزاب وليس من شغل ضباط الجيش.
الانتداب الدولي يمكنه أن يكلف تكنوقراط، خاضعين لرقابة صارمة، لإدارة شؤون البلاد، بمشاركة خبراء محليين في كل جانب من جوانب الاختصاص، وأن تكون أعمالهم ونتائج اجتماعاتهم شفافة وخاضعة للمراقبة الأهلية في التنفيذ.
شيئا فشيئا، سوف تعود البلاد لتقف على قدميها، اقتصاديا على الأقل. قبل أن يمكن التوصل إلى وضع نظام سياسي جديد، يقطع مع كل التجربة السابقة. أي يقطع مع انقلابات الجيش، كما يقطع مع النظام البرلماني الذي ظل يُمارس في ربع الساعة بين انقلاب وآخر.
وهناك أساس شرعي لذلك. فلقد سبق لمجلس الأمن الدولي أن شكل بعثة “يونيتامس” بموجب قراره رقم 2524، “استجابة لطلب القيادة السودانية” في فبراير 2020، “لدعم الانتقال الديمقراطي السلمي في السودان”.
 


المشاهدات 1501
تاريخ الإضافة 2022/01/11 - 7:23 PM
آخر تحديث 2024/04/17 - 7:26 AM

طباعة
www.AlzawraaPaper.com