رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
سرديات المدينة.. رواية العروج الدامي للكاتب عبد الله الميالي انموذجاً


المشاهدات 1111
تاريخ الإضافة 2022/01/10 - 5:59 PM
آخر تحديث 2024/03/16 - 12:51 PM

إبراهيم  رسول
إنَّ هذا المصطلح، واضحٌ ومعروفٌ في تقنيات الرواية، شكلَّ حيِّزاً كبيراً في الرواية الحديثة، لعلَّ ما نقصدُ بهذا المصطلح هو: أن تكون المُدن هي البطل ( Hero)، وهذه تقنية لها أمثلة كثيرة في الروايات، وهنا تتدخل المدن لتحكي وتُستنطق عبرَ أسلوبٍ تكنيكي احترافي، فالعمليةُ إبداعية ويتجلَّى الابداع وصعوبته فيها في الكيّفيّة التي يُبنى عليها الخطاب الروائي عامةً. 
العنوانُ الذي يُشكلُ عتبةً أولى لولوج النص، كانَ يحملُ علامةً واضحةً، بأن هناك روحية سترتفع بالنصِ وترتقي به إلى مصاف السرديات المرتفعة بقيمتها الفنية والمعنوية، خلاصة التعريف المعجمي لكلمة عروج  تعني : الارتفاع، وهذا الصعود لا بدَّ أن يكونَ من الاسفل إلى الأعلى، ومفردة عروج، كثيراً ما تأتي بصورةٍ معنويةٍ مجازيةٍ، كعروج الملائكة بين الأرض والسماء، ولكن المعنى الذي يتبادر إلى ذهن المتلقي هو عروج الروح إلى بارئها، الشهداء لهم النصيب الأكثر، في معنى العروج الروحي هذا! ولو مضينا في الرواية حتى النهاية لأدركنا أن الخطاب معنيٌّ بالشهداء وبأرواحهم التي حلّقت في أعلى عِليين.
لا يضع الروائي الكلام الاقتباسي أو المُستعار جُزافاً بل هي رسالةٌ واضحةٌ، أن القولَ لديه قصدية معينية ينشدها الكاتب من وراء ذكره لهذا القول، فأوّل كلمة تُصادفنا هي اقتباسٌ للأديب بلزاك : (الروايةُ هي التاريخ الخاص بالأمم). ولهذا القول تُفسره الكلمة التي سيذكرها المؤلف ليوضح النزوع السردي الذي ستنتهجه الرواية في خطابها العام، إذ يقول: تاريخ الأمم والشعوب هو سجل أحداثها، ومهما كانت مشاعرنا حول صانعيه، فقد نختلف أو نتفق، نحب أو نكره أشخاصه أو أحداثه، زمانه أو مكانه.. لكننا نجزم أنّ ذلك التاريخ محلُ تقدير واحترام. هذه الكلمة كانت تحملُ رسالة مفادها أن القاص يحترم التاريخ ويحترم شخصياته وينظر لهم نظرة موضوعية، حينما يريد دراسة حياة أولئك الناس.
تكوّن في الذهن انطباعاً أولياً حول الثيمة التي سيشتغل السرد عليها، وهي المنهج التاريخي أو التقنية التاريخية، فكثيراً من الروايات ترجع إلى الوراء كثيراً ، وبعض الروايات ترجع إلى الخلف أكثر مما تتقدم إلى الأمام! وهذا واضحٌ في أن الكاتب يعيش الماضي أو يعيش فيه الماضي محفوراً بالذاكرة، وكلما كانت قيم الحداثة أكثر تكون النظرة للخلف قليلة، ندخلُ إلى الرواية بفكرةٍ تاريخية، كأننا نقرأ أو نستعد لاستحضار واقعة تاريخية بثوبٍ أدبيٍّ.
النجفُ، المدينة التي شكلت متواليةً سرديةً في عموم فصول هذه الرواية، إذ تعنى بأن تستنطقُ المدينة في كلِّ ما يخصها، المدينة كانت الصوت المهيمن في الرسائل الخطابية التي بثها الكاتب، وهذه النزعة في استنطاق الأمكنة ليست وليدة ولا جديدة، بل لدينا أمثلة كثيرة يصعب عدها في هذه التقنية السردية، نجد في كلِّ فصلٍ من الفصول، بداية تمهيدية عن النجف ، وكأن القاص يبتدأ كل البدايات بالمدينة ليريد أن يرسل رسالة سردية مبطنة بأن الراوي الأبرز هو المدينة ، إذ جعل من هذا المكان روحاً حيّة متفاعلة، ولها عواطف ومشاعر، وبث عبر رسائلٍ كثيرة، أن النزوع الذي يذهب إليه هو أن يترك المدينة تتحدث عن نفسها بنفسها، وهذا تم عبر توظيف قرائن تُبنى مع السرد صعوداً وهبوطاً، شداً أو جذباً، ففي صفحة 131 يقول: تستقبل النجف شهر شباط بما تحمله أيامه من تقلبات... وفي صفحة 149: لم تكن النجف في الزمن الغابر إلا قطعة صحراء قاحلة... هذه التقنية السردية، لجأ إليها نخبة كبيرة من كتاب الرواية، وعلى رأسهم الروائي نجيب محفوظ، إذ نقل لنا الحارة المصرية القديمة، القلعة، الجمالية وغيرها من الأماكن الغارقة في محليتها وهويتها الشعبية المحلية المصرية، فعرفنا هذه الأماكن عبر سردية روائية، وهنا جعل الروائي الميالي، النجف تظهر نفسها للمتلقي عبر تقنية روائية أيضاً.
الجانب المهم والأبرز الذي ركز عليه القاص، هو النزوع الثوري لدى أبناء هذه المدينة، التي اتخذها مدينة مركزية للثورة على السلطة المتجبرة والقمعية، فمثلت النجف بقيمها الروحية قطباً مركزياً ومحورياً للانتفاضة الدينية، الشهداء تحدوا السلطة من أجل عقيدتهم الدينية، وهنا يتمثل الحضور الشخصي للشخصيات عبر مواقفهم وحضورهم المكثف، شخصياتٌ كثيرةٌ، حتى ليصعب على القارئ أن يُحصيها كاملةً، إذ موسوعية الحدث وتشعبه وتفرعه إلى فروعٍ كثيرة، حتمَ على الروائي أن يعطيه الحرية في عدد الشخصيات.
نلمحُ إصرار الروائي أن يجعل المدينة تملك حضوراً بكل هذا التكثيف، ولكننا لم نجد الصوت الأخر، ونعني به الأخر في الرواية، الرواية لها وصوتان، صوت للبطل، وصوت  لخصمه، فالبطل في هذه الرواية كان المدينة وشخوصها الذين يمثلونها وتمثلهم بصفٍ واحدٍ يقابل الخصم، فلم نسمع للصوت الآخر في الرواية، بل يكاد يكون هامشياً أو ثانوياً مقارنةً مع صوت البطل! وربما كان الأجدر أن يُوازنَ الروائيّ بينهما، فمثلاً نراه يكاد يفرضُ أدلجته ورؤاه حتى على المتلقي، إذ كتب على غلاف الكتاب: في صمت الليل المتسربل بالحديد، رأيتُ الشفاه المثكولة تعضّ على ذكريات الجراح، رأيتُ الرياح تعزف على قيثارة من أسلاك شائكة زرعتها السلطة بينها وبين شعبها، ما بين إلهام اليمين وأوهام اليسار... هذا النص يُظهر الميل الشخصي الفكري للكاتب، فهو يعطي صفة الإلهام وهي مَلَكَة ربانية تُعطى للأنبياء ومن على شاكلتهم، في حينٍ نجد أنه يُسفه الآخر، بكلمة ( أوهام) وما بين الإلهام والأوهام فرق جهوريٌ كبير!
 نجحَ الروائيُّ في هذه التقنية السردية، باستنطاق المكان وتوظيفه سردياً، المدينة في كل جوانبها، السياسية والاجتماعية والنفسية كانت ممثلةً عبر تفاعل شخوصها ودراما الحدث، تميلُ هذه الرواية إلى نوعٍ دراميٍّ ، لأن النص كان يتمثل تمثيلاً درامياً، ولعل حركة الشهداء وتحديهم السلطة، تمثل حراك التاريخ العام، إذ دوماً هناك سلطة تخالف عقيدة الشعب الذي تحكمه.
صورت الرواية، المجتمع بتفكيره ورؤاه ومدى وعيه، المجتمع لم يفكر بإسقاط هذه السلطة بقدر ما كان يُخطط للذهاب إلى مدينة كربلاء لإحياء طقوسهم ! وهذه مفارقة كبيرة، الرواية صورت المجتمع بما هو، كأن الكاتب يريد أن لا يُضيف منه شيئاً، بل الحراك الشعبي المنتفض، كان صورةً ناصعةً في جبين الحرية.
الرواية ذات نزوع تاريخي واجتماعي، نلمح البطل وهو ( مدينة النجف) هو المركز الذي بُنيت عليه الرواية أو من أجله، الذي يتأمل الكاتب وهو يسرد لنا يوميات المدينة وكيف أنها تشكلُ المركز في القرار والثورة والتمرد، هذه التقنية السردية، هي اعطاء المكان قيمة سردية، ليعبر عن نفسه، فالرواية استنطقت وأعطت الحرية في الكلام للمدينة، المكان يُشكل حيّزاً مهماً في الرواية، ولعل الباحث الموسوعي في المكان الأستاذ ياسين النصيّر، قد اشتغل في كل كتبه النقدية عن المكان حتى اضحى موسوعة نقد مكاني بامتياز! فإذن المكان ليس شيئاً اعتباطياً في الرواية، المكان في هذه الرواية تجلّى عبر استحضاره وعده البطل في كل الرواية، الشخصيات التي وردت كانت كثيرة جداً، وهذه الكثرة أعطت مسوّغاً أن تشويقياً للكاتب، أن يحولَ فكرة البطل من بين كل هذه الشخصيات إلى المدينة، الحاضنة لكل هذه الشخصيات. الرواية كانت مشهدية في كثيرٍ من الحوارات التي دارت بين الشخوص.


تابعنا على
تصميم وتطوير