استعراض ديني بنكهة الجزر ---------------------------------- كنت تحت وطأة الاكتشاف التلقائي لنبض المدينة ومتحفها المعماري الممتد على مد النظر والغائب عن وسائل الإعلام في زيارتي الأولى للقاهرة قبل أكثر من عقد. هناك فوضى معمارية لا تعمي الذائقة البصرية فحسب، بل تضيق الأنفاس على السكان أنفسهم. فأنا أومن أن مصر الحقيقية غير متاحة في كل الكم الهائل من الضجيج الإعلامي والفني والأدبي هناك خديعة مرّت على المصريين قبل أن تمرّ على العرب برمّتهم، فخلف كل هذا الضجيج الإعلامي غيّبت الصورة الحقيقية للبلاد وطبائعها وثقافتها، أمام صورة مزيفة سائدة. لذلك تركت خطاي تمشي على هواها في طرقات القاهرة في محاولة تدوين ذهني عمّا أتوق إليه، لكن مشهد قطع كل ما أفكر به، أنه ببساطة صورة مريعة عن الرياء الديني. كان محلا واسعا نسبيا لبيع العصائر بمكائن تقليدية، تجلس سيدة في منتصف العمر على طاولة لاستلام النقود من الشاربين، فيما يقف رجل ضخم بلحية كثة ونظرات متجهمة لتقديم عصير الجزر والبرتقال. الغريب أنه لا يردّ على أيّ طلب، ويكتفي بتنفيذ الطلبات بسرعة وتلقائية ويقدم الأقداح بهدوء للزبائن، كان بين عصره وأخرى يرفع نسخة صغيرة من القرآن الكريم مغلف بحقيبة جلدية ليقرأ الآيات بصوت يكاد يكون مسموعا لكل المتواجدين في المحل. مثلَ المشهد بالنسبة إليّ إثارة منقطعة النظير، وكان عليّ أن أقف وأشتري وإن لم أشرب، وبالفعل طلبت قدحا من عصير الجزر من الرجل الملتحي الواقف خلف ماكنة عصر الفواكه اليدوية والمشغول في الوقت نفسه بقراءة آيات من الذكر الحكيم، لم يبال بدهشتي فيما لم أرفع نظراتي عنه، فانتبهت السيدة لانبهاري مبتسمة وطلبت منه إعداد قدح من عصير الجزر مطالبة إياي بالثمن. يبدو أن انبهاري من المشهد غير المتوازن بسريالية دينية فائقة، كان معتادا بالنسبة إلى هذه السيدة، الواضح من ملابسها الطبيعية أنها لا تمتّ بصلة قرابة إلى قارئ القرآن وعاصر البرتقال والجزر، وإلا لظهر التشدد في طبيعة لباسها. مهما يكن من أمر، وضعت القدح على الطاولة ولم أتذوقه، فيما استمر انبهاري من مشهد متكرر لرجل يقرأ القرآن بكتاب صغير، ويتوقف مع كل طلب لتقديم العصائر للزبائن في دورة مستمرة لا تحمل غير الرياء والاستعراض المتعجرف. لم يكن بمقدوري أن أتحدث مع هذا الرجل، مع أن ابتسامة المرأة كانت تشجع على إطلاق السؤال، لكن التردد في داخلي، أنا الغريب الزائر إلى هذه البلاد للمرة الأولى، حال دون أن أظهر لعبتي وجرأتي الصحافية معا! لا يمكن أن يستفيد هذا الرجل من قراءة لكتاب مقدّس يقطعها عليه الزبائن بشكل مستمرّ، مثلما ليس بمقدوره أن يشعر بالطمأنينة والمتعة اللغوية والمعرفية الكامنة في الآيات الكريمة في متجر ضاج بصوت ماكينة العصر وطلبات المشترين، لكن المفهوم في كلّ ذلك أن فكرة الرياء تتحول عند مثله إلى استعراض ديني متغطرس أمام الآخرين، وإن كان الله غير معني به. ---------------------------------- أراء أضيف بواسطة : zawraa المشاهدات : 1374 تاريخ الإضافة : 2021/12/21 - 6:57 PM آخر تحديث : 2024/03/15 - 5:23 PM https://alzawraapaper.comcontent.php?id=334801 ---------------------------------- جريدة الزوراء العراقية AlzawraaPaper.com