رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
قراءتي في ديوان: “فوضاي تكتب نثرها”، للشاعر المغربي يحيى عمارة، تحت عنوان: فوضى الحداثة؛ سؤال كتابة وطقوس وجود


المشاهدات 1371
تاريخ الإضافة 2021/12/01 - 5:49 PM
آخر تحديث 2024/04/18 - 3:01 PM

 د. بوزيان موساوي/ ناقد مغربي
مدخل: “فوضايَ تكتبُ نثرها” ديوان شعري للشاعر المغربي يحيى عمارة. صدر عن دار “روافد للنشر و التوزيع” القاهرة/ مصر سنة 2018؛ الكتاب من الحجم المتوسط (114 صفحة). لوحة الغلاف: الفنان التشكيلي المغربي محمد الشريفي؛ يحتوي الديوان ـ فضلا عن أوراقه الخارجية ـ على 36 نصا شعريا.
اخترنا تركيز الحواس الخمس على “التوجيهات” غير المباشرة للأوراق الخارجية الكتاب علّها ترشِدُنا منهجيا لمقاربة ممكنة. وكانت أقوى الاشارات في ورقة خارجية على ظهر غلاف الكتاب أتاحت مقاربة أربع مقولات تبدو لنا كرافعات أساسية للكتابة الشعرية عند الشاعر يحيى عمارة: 
التجريب (بمفهومه الفلسفي)، و السؤال (بمدلوله الابستمولوجي)، و التجديد (في علاقته بالحداثة)، و الاغتراب (بمفهومه الوجودي السارتري).
نقرأ هذا المقطع من الورقة الخارجية على ظهر الكتاب (هو مقطع من قصيدة “تأهب للسفر” ص. 31):
“لُغتي تجرّبُ
منطقَ الطيرِ العجيب
تقولُ لي:
ذوّبْ دمَ الغرباءِ
في لذائذ السؤالِ
جدّدْ و اغتربْ...”
نضع سطرا تحت الكلمات التالية: “تُجرّب”، “السؤال”، “جدّد، “اغترب”.    
1 ـ التجريب: “تجرّبّ: 
تحيلنا ربما، بخصوص ميول الشاعر يحيى عمارة في سؤال الكتابة الشعرية الممكنة، على “الفلسفة التجريبية” (L’empirisme)، لكن، ليس بمعناها العام الذي ظهر مع دافيد هيوم، لكن بمفهومها الرافض في سياقنا للكتابة كمجرد “محاكاة” لأنماط قبلية، أي: كتابة تستلهم مادتها المعرفية والجمالية عن طريق الحواس و الخبرة، و من هنا قول الشاعر يحيى عمارة في مطلع المقطع أعلاه: “لغتي تجرّب منطق الطير العجيب”، و من هما أيضا كل هذه العناوين لنصوص من نفس الديوان: “صحبة طير”، و “الطفلة و البومة”، و”حكمة الحجل”، و”شريعة النمل”، و “ثلج الضياع”، و “أربعة بساتين”، و”فوضى الحدائق”، ;”فوضى الغزال”، و”فوضى اليمام”، و”فوضى الماء”، و”لَذّة الأعمى”... ومن هذا الأخير نقرأ  ـ على سبيل المثال لا الحصر هذا الميول ل “التجريبية” المعتمدة على الحواس ـ هذا المقطع (ص. 106):
“انفردي يا صديقة روحي
بما ملكتْ لذّتي
و اتركي عَبَسَ الليل لغير الجسد
فأنا من قميص الهوى
أستعير بلاغة حِسِّي...” 
من هنا يتضح لنا مغزى تلك الإحالة على أدونيس (من بين آخرين) في أول ورقة خارجية للديوان (ص. 3)، و كأن الشاعر يحيى عمارة يشارك رأي أدونيس الذي نورده كالتالي:
“الشكل في ذاته مضمون. الشعر بهذا المعنى هو الفوضى الرائعة  كفوضى الطبيعة. القصيدة يجب أن تكون فوضى طبيعية.” (أدونيس شاعر الدهشة وكثافة الكلمة”: موسوعة أعلام الشعر العربي الحديث، ص. 20).
ولما يصبح “ الشكل في ذاته مضمون”تتوه القراءات عن مفاتيح ممكنة للفهم؛ فيسود الغموض كما لو كان مرآة للغة الشعر الحديث... يعبر عنه الشاعر يحيى عمارة بالتلميح الذي يقترب من المباشرة في نصّين تحت عنوان: “رسالة إلى سان جون بيرس”) نقرأ منها:
“ل “سان جون بيرس” أكتبُ رسالتي المشفرة
ذهب الغموض هدية معاصرة
تتوشى بها عروس الحرف
في قصر الجميلات
الجميلات أصناف
صديقة سلطان
تمدح صدره الأجرب
زميلة عسكري
تضاجع قلبه الأعزب
حمّالة لفظٍ
تنشر شَعرها الأشيب
رفيقة شاعر
تنثر ماءه الأعذب.” (ص. 48).
2 السؤال الابستمولوجي: “تُجرّب” و تسأل (“لذائذ السؤال”):
لا غرابة أن يُلازم السؤالُ التجريبَ؛ و قد نطرح مع الشاعر يحيى عمارة أسئلة في سيرورة نفس المنطق:
 ما هو الشعر؟ كيف نكتبه؟ قيمته لفهم موضوع معين؟... و قد نجد أجوبة مشفّرة في العديد من نصوص الديوان، منها نص بعنوان “فوضى القصيدة” (ص. 50)، هذا مقطع منها:
“امتلأت عين بودلير بالقش المستعار
من بلاغة فيكتور هيجو
استعان يوسف الخال
بفوضى الماغوط
حينما استمع فؤاده
لنداء “الإبحار في الذاكرة”
أنفذوا حنجرة أدونيس
من غثيان التكرار
الذي يقيد أحلاما
أنقذوا لؤلؤة المجاطي
من فقهاء الفروسية المادحين.”
 إن كان الشعر القديم في ذهن المجاطي متجاوزا، فمن “فقهاء الفروسية المادحين” يتواجد امرؤ القيس، و بشار بن برد، و أبو نواس، والمتنبي و أبو تمام  أبو العلاء المعري.. الذين حملوا مشعل الحداثة في زمنهم... ما هو عتيق اليوم و متجاوز، كان في عصره قمة الحداثة و التجديد... وقد تصدر المعري الورقة الخارجية لهذا الديوان تماشيا مع هذه الفلسفة التي ألهمت يحيى اعمارة مقولة تيمة الفوضى؛ نقرأ فيها: 
        “دع الطير فوضى إنما هي كلَّها  طوالبُ رزق لا تجيء بمفظع”  
(من قصيدة “تحية كسرى” من ديوان “سقط الزند”).
لذا ف “القطيعة الابستمولوجية” ليست بين مدرسة شعرية (أو تيار أو توجه)  وأخرى، بقدر ما هي  توجه نسقي فكري فلسفي (تزعمه كل من باشلار و فوكو  وألتوسير) يرفض الاستمرارية الحتمية بين الحقب الزمنية التاريخية من حيث اللغة (الخطاب)، و المعرفة، و تطور المجتمعات.. 
التجديد و التحديث: “جَدّدْ”: “القطيعة الابستمولوجية” التي يلمح إليها الشاعر يحيى عمارة لا تعني الانفصال عما سبق، لكن في ذات الآن تعني “التجديد” بمعنى “التجاوز” (“أنفذوا حنجرة أدونيس من غثيان التكرار”.... “انقذوا لؤلؤة المجاطي من فقهاء الفروسية المادحين”..)؛ نقرأ في هذا السياق:
“ أحمل فانوس المشي
أعانق صدر المينرْفا،
و أدق الأجراس بما أملك
من حس أو خيال
و أكمّل دورة دمي،
دورة
دورة
و أجدّدُ أسفاري.” (نص بعنوان “كينونة”، ص. 11).
نلاحظ أن الشاعر يحيى عمارة استعمل كلمة “التجديد”، و ليس “التحديث”، لأنه كما جاء على لسان أحد الباحثين: “للجديد معنيان: زمني وهو في ذلك آخر ما استجدّ، و فني، أي ليس في ما أتى قبله ما يماثله. أما الحديث فذو دلالة زمنية ويعني كل ما لم يُصبح عتيقا. كل جديد، بهذا المعنى حديث، لكن ليس كل حديث جديدا (...) “
4 الاغتراب الوجودي: “جدّد و اغتربْ”:
 نقرأ:
“قالتْ: أنتَ، إذّا،
سيزيف يفكّر
في حجم الصخر
و يريد طلوع القمة الشمّاء
حتى تهرب منه نساء القصر.
ردّ العصفور مغرّد ترنيمة:
إني أرفع رايات وجودي
أنثر ذاكرتي حرّا
فوق الأغصان 
أقول لهم:
إني ذاتٌ من مشيِ سلحفاة
أقتاتُ حليب الهامة.”(نص  “أنثر ذاكرتي حرّا” (ص. 10)
هو “اغتراب وجودي” فعلا لكن من وجهة نظر مزدوجة؛ فبينما يراه بعض الشعراء من وجهة نظر ميتافيزيقية/ قدرية؛ نقرأ:
“كان يريد أن يرى النظام في الفوضى
و أن يرى الجمال في النظام
و كان نادر الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميّتة يخاف أن يبعثها كلامُهُ (...)
ثمّ ينادي الله قبل أن ينام
الله، هبْ لي المقلة التي ترى
خلف تشتَتِ الشكول و الصوّر... (من قصيدة “مرثية رجل عظيم”/ صلاح عبد الصبور)؛
تتمظهر “فوضى” يحيى عمارة بإيحات أكثر تفاؤلا و إيمانا بقدرة التجديد والتغيير؛ نقرأ:
“ ذاكرتي قصيدة تخبئ الهدايا
فى أطباق من ريح
تصنعها أصابع امرأة
تمدح العاصفة
سأمنحها ما أملك
من عظام اللغة ,
أشجار اللثة ,
أوتار الفوضى
كى تجدد هودج الحلم “ (مقطع من قصيدة “فوضى الذاكرة”. ص. 20).
 


تابعنا على
تصميم وتطوير