جريدة الزوراء العراقية

زمنية السيرة الذاتية في كتاب ( لو كان في العمر بقية) أ.د. ابتسام مرهون الصفار


أ.د مصطفى لطيف عارف
ناقد وقاص عراقي 
يبدو واضحا أن المؤلفة الدكتورة ابتسام الصفار  تعيد تركيب بعض الأفكار المعلن عنها في العلاقة بين سيرتها الذاتية ، ومفهوم الزمن، حيث يخلص إلى القول بان الذاكرة والديمومة تعدان الأداتين اللتين يتفق حولهما الزمن النفسي،  والفلسفي للأدب، فإذا كانت الديمومة هي التدفق المستمر للزمن، فإن الذاكرة ليست سوى مستودع أو خزان للمسجلات ، والآثار الثابتة للأحداث الماضية يشبه السجلات المحفوظة في الطبقات الجيولوجية غير أن الفكرة الرئيسة التي لم تتوسع المؤلفة في شرحها تتمثل 
في تصورها حول التداخل الدينامي،  أن العلاقة المتفاعلة بين الزمن ، والذات، وهو ما يفرز لنا مدى التركيز على الترابطات الزمنية التي لا يتم ترتيبها بانتظام في السيرة الذاتية، مما يعنى كسر العلاقة بين السابق،  واللاحق ، كما تكشف عنها الأحداث في الطبيعة  ،  لقد تم تقسيم الحيز النصي إلى ثلاثة عشرة نصا ، كل نص يحمل اسم ظرف زمان دالا على الترتيب أو على المدة ، و قد وردت كالاتي ( قبل ، للحظة ، لبرهة ، ثانية ، الساعة ، الآن ، عندما ، يوم ، منذ ، قبيل ، الليلة ، حين ، وقت ) وهي الكلمات الأولى التي وردت في بداية كل نص،  نلحظ أن توظيـف هذه المفـردات الدالة على الظرفية الزمانية لم يكن توظيفا اعتباطيا من قبل المؤلفة ، بل إن ذلك قد أعطى للسيرة الذاتية بناء زمنيا متداخلا متشابكا لا يقوم البتة على التسلسل الزمني الأفقي ، و هذا ما تطرحه السيرة الذاتية المعاصرة التي  تطرح فيها المؤلفة عن قصد المرجع الزمني منظما نصه السيري لا بحسب تسلسل أحداث الحكاية بل بالاعتماد على تصور جمالي أو مذهبي يجعله يتصرف في تنظيم هذه الأحداث في نطاق نصها السيري   ،  ولعل افتتاحية الكتاب ( لو كان في العمر بقية ) تحاول أن تعرف الزمن بمعناه المتعدد، ولاسيما عند برجسون في تصويره للزمن النفسي أي ذلك الزمن المعطى مباشرة في الوجدان، وبتركيز أكثر على مفهوم الزمن عند برتراند رسل في ربطه للوجدان بالخبرة،  والذاكرة، وكذلك منظور القديس أوغسطين الذي يركز على الاختبار اللحظي، فيحدث ذلك التقارب الذي افرزته السيرة الذاتية  عند الدكتورة ابتسام الصفار إذ يشكل التذكر ملمحا بارزا، فهو أحد المقومات السياقية الرئيسة في تشكيل السيرة الذاتية عالميا ،  أما السبب المباشر في تقارب مفهوم الزمن النفسي عند برجسون من المفهوم الأدبي فيرجع إلى الاعتماد على الحالات الشعورية ، والنفسية، من حيث الاقتران ليس بالوجدان المباشر، بل أيضا بالديمومة، التي يعبر عنها التتابع والتغيير، وابلغ تعبير عن ذلك كتابات فرجينيا وولف وبروست ،  وفي كتاب السيرة الذاتية ( لو كان في العمر بقية) نجد أنفسنا أمام مجموعة من التداعيات،  و الذكريات المتعلقة بطفولة دكتورة ابتسام  ، و كذلك علاقاتها الأسرية ،                و الاجتماعية،   و النفسية،  و كذا موقفها من الحياة،  و الناس و السلطة ، غير أن هذه المدة  الزمنية تطرح هي الأخرى بدورها زمنا أطول على مستوى الخطاب الروائي الذي يخضع لمجموع النصوص ، و الأحداث الجزئية المكونة للسيرة الذاتية ككـل ، فنراها تقول : كنت قد بدأت بكتابة السيرة قبل عشر سنوات حين كنت أستاذة في جامعة جدارا ،  وأسميته (لو كان في العمر بقية) واحتج كل من سمع بالعنوان وتشاءم منه . وقد اقترح احد الإخوة عدة أسماء منها ،  حديث النفس ،  مرآة النفس ،  مع الأيام ،  وغيرها وقد راجعت نفسي ،  واستشرتها ،  فوجدتها ميالة إلى العنوان الأول ،  الأعمار بيد الله لا يقدمها اسم كتاب ولا يؤخرها ،    تناولت دكتورة ابتسام الزمن بكل أبعاده في خلق النص عن طريق ذاكرتها للماضي في نقل أحداث سيرتها  الذاتية ،  وهذا الكلام يدحض الرأي القائل بضرورة الترتيب الكرونولوجي التصاعدي في ترتيب الأحداث في النص السير ذاتي  ، لأنه كأي نص سردي آخر محكوم بمبدأ الانتقائية النابعة من زاوية نظر المؤلفة ، ورؤيتها لحياة مضت ، وانفلتت من بين يديها ولم يعد بإمكانها مهما فعلت أن تعيدها كما جرت دون أن ينالها النسيان،  أو يشوبها الوهم،  أو يعسر البوح،  والكشف عن جوانب منها ، فضلا عن أن هذه الحياة إذا ما أرادت المؤلفة أن ترويها بحسب تسلسل وقوعها من دون هدف ، فأنها ستحتاج إلى مجلدات ضخمة وزمن طويل لتدوينها كما أن من شان هذا النوع من التدوين أن يباعد بين الحوادث،  والأفكار،  ويبعثرها بين السنين  ،  فيفقد النص حيويته الإنسانية الكاشفة عن الذات المسرودة في النص ، وإذا كانت هذه الطريقة تسري بقانونها على النصوص السيرة الذاتية بشكل عام ،  فإنها تكون أكثر فاعلية في النص السيري عند الدكتورة ابتسام ،  فنراها تقول : ما مر على العائلة العراقية من ظروف لا يمكن أن يتخيله العرب ،  فقلة ذات اليد شملت معظم العوائل ،  اذكر أن أستاذا من الأساتذة الأفاضل من بيت علم وجاه ،  سحقته أيام الحصار التي كنا نتداول تفصيلاتها في ساعات الاستراحة ،  حدثني يوما عن ابنه الوحيد ،  وكيف انه يشعر بالحصار قاتلا وخائفا ،  وان له بيت أخ يتمنى أن يزورهم مع ابنته ،  وزوجته ،  لكنه يخشى أن يكلفهم مؤونة الضيافة  . إن اعتماد المؤلفة  على الزمن الداخلي هو الذي خلف توارد جميع أحداث السيرة الذاتية باعتبار أن الفاعل من ملفوظ السيرة الذاتية يعيش حالة الصدمة،  و الألم،  ويلجأ إلى استحضار الماضي عبر الأحلام،  و الذكريات لتفتيت هذا الألم ، و إحلال محله اللذة ، والسيرة الذاتية عند دكتورة ابتسام تكتشف عن  دخولها التحدي عن طريق إثبات وجودها باللجوء إلى الماضي ، و التصور المستقبلي ، فيقع بذلك تجاوز للزمن الخارجي ، وما يطبعه من رتابة يولدها تسلسل الأحداث السردية تسلسلا خطيا ، والمؤلفة تنطلق من الآن إلى الماضي ثم ،  إلى المستقبل عبر الحاضر إلى زمن ينتقل فيه السرد  بين مختلف الأبعاد الزمنية بكل حرية دون اعتبار لما قد يحدث لدى القارئ من تداخل بين الأحداث ، وما قد يجده من عسر في إدراك رباطها المنطقي  . ، وفي إطار هذا الزمن الداخلي المتشابك يبرز الزمن الكائن المتصل بماضي المؤلفة ،  و حاضــرها ،وما يتســم كلاهما من التأزم المرتبط بعلاقة  انفصال، الوعي /اللاوعي  كما يبرز الزمن الممكن وهو يومئ إلى المستقبل ، وما يمكن أن تفعله الكتابة المضادة التابعة من كيان الأستاذة المثقفة الذي يدرك أحقيه هذه الكتابة في تغير الوضع الكائن .


المشاهدات 1450
تاريخ الإضافة 2021/10/16 - 5:25 PM
آخر تحديث 2024/03/28 - 12:16 PM

طباعة
www.AlzawraaPaper.com