رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
يوتوبيا الذات في مجموعة ما يفسّره البياض للشاعر سلام البنّاي


المشاهدات 1255
تاريخ الإضافة 2021/10/16 - 5:23 PM
آخر تحديث 2024/04/21 - 6:06 PM

د.عمّار إبراهيم الياسريّ
منذ المهادات الفلسفيّة الأولى، بحث الفلاسفة والمفكّرون عن عوالم سامية بعيدة تنأى بذاتها عن العنف والظلم؛ بل بعيدة عن كلّ ما ينتمي لعوالم (الديستوبيا) المقيتة، وما جمهوريّة أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة إلا من تجلّياتهما المائزة، ومع نشوء نظريّة الأجناس الأدبيّة أضحت فلسفة (اليوتوبيا) من تمثّلاتها الجماليّة، فنصوص مثل “داغستان بلدي” و”مدن لا مرئيّة” و”بصرياثا” سعت إلى تشكيل أماكنها المتخيّلة الضاجّة بالحياة المسوّرة بالجمال، وقد تشظّى مفهوم (الدستوبيا) على نسقين: الأوّل خارجيّ تتشكّل فيه الفضاءات عن طريق إعادة تشكيل المكان والثاني داخليّ يتشكّل عن طريق التعالقات مع الأمّ والبيت وما يحيط بهما، إذ تعمد الذات على إعادة محاكمة الوجود وبناء عوالمها الخاصّة عبر التداعيات والأسئلة الوجوديّة والتأمّل، فعالم الشاعر لا يشبه إلّا ذاته بعدها يعمد على تنافذ الداخل نحو الخارج، وما بين (يوتوبيا) الخارج والداخل يتشظّى الخيال وتتغاير الرؤى.
لم تخلُ مجموعة “ما يفسّره البياض” للشاعر سلام البنّاي من تراكيب لغويّة تشتغل على صياغة مدينة مختلفة وقريبة من حمولاته القبليّة والبعديّة المسوّرة بالخسارات والرغبات المؤجّلة والأمنيات المنتظرة، فالشاعر يعلنها من عتبتها الأولى من(حذف) أنّ البياض هو المفسّر للأسئلة الوجوديّة التي حاقت بالذات الشاعرة، ومنه يتشظّى المكان المألوف نحو عوالم تتمأسس بين الواقعي المعيش والمتخيّل المتشكّل، وقد تنوّعت (يوتوبيا) الشاعر ما بين المحيط الخارجيّ والداخليّ، فالمدينة والشجرة والبستانيّ وبائعو الخبز والحلوى من جهة والأسرة من جهة أخرى هي المادّة الخام للمحاكاة الخالصة التي يرنو لها، ولو تابعنا نصّه المعنون “في مواسم اخضرارها نتأمّل حنين الماء” نلحظ أن الشاعر يؤسّس للمدينة المتخيّلة بوصفها الحاضنة لصيرورته وكينونته ومنظومته العلائقيّة مع الموجودات، والسؤال الذي يتبادر، ما المدينة الفاضلة التي يؤسّس لها الشاعر؟ لنجد الجواب في الصفحة الثامنة والثلاثين حينما يقول:
المدينة التي لا مناصّ من عشقها 
نستند عليها كلّما نجوع
وتلوذ أحلامنا عند تخومها
للوهلة الأولى نلحظ ظلال التناصّات الدينيّة في بنية النصّ، فالأدبيّات اللاهوتيّة تذهب إلى أن الخبز هو عماد العبادة؛ بل عماد الوجود، وفي ظلّ الاحتراب السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ يؤسّس الشاعر لمدينته التي تهب الخبز للجميع، ليس هذا فحسب، بل هي موئل الأحلام وملاذ المهمّشين القابعين تحت ظلّ مقولة فلسفة الاستهلاك “أنا أستهلك إذًا أنا موجود” في عالم أضحى فيه الإنسان عبارة عن آلة منتجة متى ما أصابها العطب تركن مع الخردوات، فالشاعر هنا يقوّض فلسفة الاستهلاك المقيتة نحو (يوتيوبيا) متخيّلة تضمّه مع المتعبين والمهمّشين.
وقد تضمّنت المجموعة نصوصًا أسّست رؤية الشاعر لعوالمه الخاصّة، فبعد المدينة تعدّدت الشطائر الحياتيّة، ففي نصّ “شجرة التين” يختار الشاعر الشجرة بوصفها دلالة شموليّة عن المتخيّل حينما يصفها على إنّها أوّل شجرة نزلت على الأرض لتصبح البنية العميقة التي تتعالق معها الموجودات، إذ أنّ صاحب المخبز يسقيها بدموعه قبل أن يوقد تنّوره، فيما استظلّ العاشق بفيئها مخبّئًا قصائد عشقه واتخذها الأطفال مظلّة تسوّر حيواتهم، إنّ التحوّلات الصوريّة التي أحاطت بالبنية العميقة الشجرة( هل تحتاج الشجرة الألف و اللام؟ أذا كانت مبتدأ جديدا تحتاج و نضع قبلها فارزة و إلا نحذف الألف و اللام و نضع حرف جر {للشجرة} ) جعلت منها سيرورة النماء، فخبز التنّور وذكريات المراهق وصخب الطفولة تؤسس عالمًا من النماء والخصب والديمومة، ولم يكتف الشاعر بتشكيل عوالم البياض من المدينة والشجرة، بل عمد إلى خلق شخصيّات تجوس وسط فضاءاتها، والشخصيّات التي ابتكرها مخيال الشاعر لم تنفكّ من أحلام الطفولة، لذا جاءت المحاكاة المثاليّة معزّزة بالصدق الفنّي حينما يصف بائع الحلوى في الصفحة العشرين من نصّ بائع الحلوى:
وحين أمدّ نظراتي في علبة عنائه 
أجدها فارغة إلّا من وجه الرب
فالبائع الذي كان حضوره أقصى أمنيات الطفولة المستلبة، عانى هو الآخر من الحزن في مدينة الحقيقة، لكنّ الشاعر وعبر التناصّات اللاهوتيّة جعل منه قريبًا من وجه الرب، فالفقراء أحباب الله، وهنا نلحظ أنّ (يوتوبيا) البنّاي تقترب من صورة الإله الذي لم تُشوَّه عبر الصراعات والأيديولوجيّات التي يخوضها الطغاة ممّن نصّبوا أنفسهم وكلاء عنه، ولم يختلف البستانيّ في صورته النصيّة عن بائع الحلوى، فقد خصّه الشاعر بعتبة نصيّة في الصفحة السابعة عشرة لتشكّل دلالة مركزيّة تتماهى مع تداعياته الحرّة حينما يقول:
ليتني رافقتهُ منذ زمن بعيد
وهو يُعبّد طريق خريطة التراب
ليمرَّ ضاحكًا بين يديه الماء.
 فالبستانيّ حسب الشاعر يعيد تشكيل خريطة التراب بوصفه الوطن المستلب في ذهن الشاعر، لذا كان يمنّي النفس بمعرفته منذ زمن حتى يرمّم الخيبات التي رافقته منذ السيرورة الأولى، فهو المسدّد من الرب لبياضه، لذا يمرّ الماء بين يديه ضاحكًا.
ولم تخلُ المجموعة من المحيط الداخلي المحيط بالشاعر، فالفضاءات الخارجية تتآزر مع فضاءات البيت على وفق مخيال الشاعر الباحث عن مدينته التي تُربّتُ على روحه المستلبة، لذا جاءت الأم بوصفها الحاضنة الأولى تحت عنونة مركزيّة “سيّدة البياض”، فمنها ينبثق البياض واليها يعود، ولو تابعنا النصّ نلحظ البلاغة الموظّفة التي جعلت منها (يوتوبيا) خالصة مثل “بمحراث مواسمها” و”بسواد أيّامها” و”بعباءة صبرها” و”أطراف نعاسها”، فمن محراث موسمها تَشطب جوعه وبعباءة صبرها تَلفعه عن الشرور المحدقة به، فالأمّ هي المدينة المثاليّة المُتَخيَّلة لأوّل وهلة، ومنها تتمرحل الرغبات إلى المحيط الداخليّ والخارجيّ على وفق ما تمّ ذكره سابقًا لتحقيق (اليوتوبيا) التي ينشدها الشاعر في مجموعته، لتشرق بعدها مآلات العتبة الرئيسة للمجموعة.    
 لم تكن نصوص مجموعة “ما يفسّره البياض” ساحة صراع بين مفارقات الانتماء للواقع ورغبات تجسيد المُتَخيّل فحسب؛ بل كانت بنية جماليّة وفنّية متّسقة بين عالمين مختلفين، العالم الموجود والعالم المتخيّل، برع في صياغتها الشاعر سلام البنّاي. 


تابعنا على
تصميم وتطوير