النصُّ بينَ زيِّ الشِّعرِ وأزياء الشعريّة ---------------------------------- د. صباح التميمي ثمةَ تباينٌ حادٌّ في طبيعة التكوّن والنمو والتأطير الجنسي بين الشعر بوصفه زيّاً رسميّاً لا يُمكن خرق برتوكولاته في الثقافة العربيّة، وبين الشعرية بوصفها مقولة دبلوماسية تتمتّع بمساحة انفتاح وحرية رحبة، فالأوّل ndash والحديث هنا عن النص الشعري العربي ndash لا يتقبّل الاستبدالات والتحوّلات الجذرية بسهولة؛ لأنّه مؤسّسٌ على قاعدة صُلبة تجذّرت أساساتها عميقًا في منظومة العقل الجمعي العربي المعياري الذي لا يُغادر الموروث بيُسر؛ لذا فهو عند الشاعر العربي يجري على اللسان كما يجري فرس الرِّهان مثلما قال أبو عثمان ndash رحمه الله ، ومن ذاكَ صارَ جموحاً، لا يثني رأسَه لكلّ راكب، في حين تُمَثِّلُ الأخرى ndash أعني الشعرية ndash صورةً لبعض ما تسرّب إلينا من ثقافة الآخر الغربي مع موضات المصطلح وأزيائه، التي وصلت إلينا مُعلّبةً من بَرَّادَات الثقافة الأدبية الغربية بلا مواد حافظة، لكنّها ndash مع ذلك ndash تصلُح ndash بمفهومها العام للتناول بعدِّها طبقاً مفيداً لبعض النصوص المفتوحة العصيّة على مقاييس الجودة المعيارية العربية أو ما يُمكن أن أُسمّيه بـالآيزو الشعري . ربّما أريد أن ألفت النظر في هذا المدخل المُريب تقريباً ndash إلى مسألة محو الهوية الأجناسية التي تقترفها بعض النصوص، حين تمارس لعبة تكوينها خارج أسوار مضمار الشعر العربي، بحركة ردة فعل فنّية، تُغَيِّبُ فيها هُويّتَها وملامحَها الجمالية مع سبق الإصرار، وتصبح هلامية، أو تقترب من التخنيث فتجمع بين ذكورية الشعر وأنوثية النثر، بلا مبالاة مُتعمّدة، وهذا ndash في الحقيقة لونٌ من ألوان الحرية والتمرّد، الذي يخرج بالتجربة من القيد إلى كسر القيد، ومن الفضاء المكاني الضيّق إلى فضاءات الرحابة، وهي ممارسات دشنتها نماذجُ قصيدة النثر المُبكِّرَة كما هو معلوم عند المَعْنِيين. وما يعنيني هنا، هو أن ينتهزَ ممارسُ هذا النمط من النصوص فرصة ضعف الرقابة الصحّية الأجناسية، فيحاول ممارسة كتابة الجمال دون افتعال ضجّة فنيّة، فلِمَ تُلبِسُ نصوصَكَ زيَّ الشعرِ عنوة، ولِمَ تخلعُ عليها أسماءً سمَّيتها أنتَ وآباؤكَ ما أنزلَ الشعرُ بها من سلطان، والأحرى بكَ والأجدى أن تُدخلَها صرحاً ممرّدا من شعرية لا تخف منه ولا تدّعيه، ولا تكشف عن ساقها فيه، بل تطفو هناك في فضاء رحب لا تجوع فيه ولا تعرى . ولا يذهبنّ بك الظن بأني ndash في مقامي هذا ndash أحاولُ أن أنتقصَ من التجارب الجادة في هذا النمط الكتابي، بل على عكسِ ظنِّك تماماً، أسعى سعياً حثيثاً، إلى أن تسيرَ مع ركب ثقافتنا وعاداتنا الفنيّة ndash وإن لبست أزياء مستوردة ؛ فتكون في مكانها الصحيح، وتخلعُ ثوبَ الأضداد . إنّ الشعرية ndash وأنا هنا أتبنّى فهمَ أُستاذِ أساتيذِنا العراقي الراحل الدكتور أحمد مطلوب رحمه الله ndash هي في حقيقتها شعورٌ بالجمال وإحساس بعمقه حين يتخلّل أوردة العواطف ويلمس شغاف الروح، أو هي ndash كما يقول رحمه الله ndash الطاقة المُتَفَجّرَة في الكلام المتميّز بقدرته على الانزياح، والتفرّد، وخلق حالة من التوتّر، فأنتَ تتوتّرُ ndash مثلي أو ربما لا حين تقرأ عنوانَ نصٍّ للراحلِ الشاعر العراقي مروان عادل حمزة يُسمّيه : إذ تخلعُ الأرصفةُ ضِرساً آخر، وهو من العناوين المرتكزة على آلية الانزياح الدلالي التي تُضفي عليه أبعادًا شاعريةً خياليةً تجعلُه ينزاح بعيدًا عن التقريرية والمباشرة، وهو عنوان علامي بارز يؤشّر ndash منذ البداية ndash الثيمة المركزية التي تقومُ عليها دلالة النص من خلال الدوال المشكّلة لمركزية هذه الدلالة في العنوان وهي : الخلع، الضرس، الأرصفة، فدال الخلع يحيل على مداليل : الموت، الفناء، السقوط، الأخذ عنوة . ، ودال الضرس يحيل على الشخص الكبير صاحب المنزلة العالية في الوسط الذي يعيش فيه بحسب السياقات الاجتماعية العراقية، فحين يتوفّى اللهُ شيخَ عشيرة ما أو أحد أفرادها المعوّل عليهم كثيرا في أمورها، تقول الناس : مات لهم ضرس كناية عن عظيم مكانته بين أفراد العشيرة، وأما دال الأرصفة فهو مؤشّر علامي شكّل بؤرة الفاعلية المهيمنة في تركيب العنوان وهو معادل موضوعي للـضياع، التشتّت، العوز، الغربة.، وحين تجتمع كلُّ هذه الدوال لتشكّل الدلالة العامة في العنوان؛ يصبح موجّها موازيا يدلّ المتلقي ndash بوساطة أنظمة العلامات فيه ndash على بؤرة الدلالة في المتن الشعري، ولاسيما حين يُلتَفَت إلى عنصر موازٍ آخر تعاضد مع العنوان لإنتاج الدلالة المُرَمَّزة الدالة على ثيمة النص الرئيسية، وهو عنصر الإهداء الذي وجّهه الشاعر لشخصية مثقّفة تمثّلت بالشاعر المغترب هادي السيّد. وفي ضوء كلّ هذه المعطيات المستحصلة من دوال العنوان، والإهداء، يتّضح أن الضرس الذي تعرّض للخلع الموت هو هادي السيّد، وأنّ الثيمة المركزية في العنوان تدور على تأبينه ورثائه بعد رحيله، ويتجلّى هذا في النص ومنه قوله: الذين تنامُ تحتَهم الأرصفةُ عرائسَ من كونكريت مؤنّث هاربين من أحضان عارضات أزياء السياسة . لأحضان شوارع باردة متكوّرين على حافَّات ملامحِهم تتساقطُ عنهم علاماتُهم الفارقة رؤوسهم عجلاتٌ لمدارس أدبية. مراكزُ لأكوان بلا إله. ليس لقمرٍ أن يدّعي سقفاً عليهم ولا أكتمُ الوطنَ كُرهاً لفكرةِ أنْ تغلِّفَهم أخيراً قشرتُه الجاحدة. فالنص ndash هنا ndash يضجّ بشعرية المجاز المتأتّي من صوغ الجمل بطريقة محترفة، وهو يحيلنا مباشرة على الضياع الجمعي الذي يظهر في ضمائر الجمع المستعملة هم، التي تختزن معاني التشتّت والغربة والعوز والفاقة التي عانى منها ndash على نحو جماعي أدباءٌ ومثقفون عراقيون كُثر ومنهم هادي السيّد الذي قضى نحبه مغترباً ضائعاً، وهنا تتجلى أواصرُ الترابط، وتتكشّف قوّتها، بين العنوان والنص من خلال شبكة الدوال المشتركة بين المُكَوِّنَيْن: العنوان ونصّه . إلى هنا نتساءل : هل توترتَ الآن؟ هل شعرتَ بما كان يشعر به مروان ndash رحمه الله ndash ؟ إذا كان جوابك بالإيجاب فلا تكترث للتسميات إذن، ودعنا نغرقُ معاً في شعرية نصوصك المفتوحة، وإن كانت الأخرى فدعك من حرفة الأدب كلّها، واطلب توتّرك فيما تجده مُدغدغاً لدواخلك، مُنعشاً لإحساس الذئب النائم فيك . ---------------------------------- ثقافية أضيف بواسطة : zawraa المشاهدات : 1279 تاريخ الإضافة : 2021/09/14 - 6:13 PM آخر تحديث : 2024/03/29 - 1:59 PM https://alzawraapaper.comcontent.php?id=329833 ---------------------------------- جريدة الزوراء العراقية AlzawraaPaper.com