رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
بعد صراع الكتابة.. أثمة انطفاء؟


المشاهدات 1271
تاريخ الإضافة 2021/09/14 - 6:13 PM
آخر تحديث 2024/03/23 - 2:12 PM

خلود البدري
عن الكتابة، تقول إيزابيل الليندي” الكتابة مثل الشعوذة: لا يكفي إخراج أرنب من القبعة، بل يجب عمل ذلك بأناقة وطريقة ممتعة. وهذا ما يطمح إليه كل كاتب. فالكتابة حياة المبدع وصراعه، وهنا نتساءل: الصراع مع من؟! 
مع نفسه، موهبته، كيف يُنمي المبدع قدراته، ويعمّق من تجاربه، أو مع محيطه المجتمعي والعائلي، ومع محبطات تُوضع وتعترض طريقه. للكاتب حياة خاصة يدور في فلكها كغيره من البشر، والكتابة بالنسبة لمن حوله أحيانًا شيء طارئ!، للبعض طبعًا، وخاصة بالنسبة للمرأة، من قبل الزوج، أو الأبناء، أو حتى الأقارب! في مجتمع شرقي له معايير تختلف عن غيره.
وقد تتعارض مسؤوليات الكاتب الحياتية مع استمراريته في الكتابة؛ فيصعب والحالة هذه من تحقيق المواءمة بين ما يُطلب منه، وما يرغب في إنجازه! عوائق كثيرة تُكبله، تلتف حوله تشكّه كلما رام الإفلات منها. 
يحصل كما حدث معي مؤخرا: فبعدما انتهيت من كتابة روايتي الثانية، باشرت قبل أيام برسم مخطط لرواية جديدة. اخترت موضوعها، وكذلك النمط السردي الذي قررت اتباعه، لكنني كلما فتحت حاسوبي تشتّت أفكاري، فتراجعت. كانت تكفني لمسة حروف لوحة الكمبيوتر، لها فعل السحر في نفسي، تأسرني وتُذيب أصابعي فيها، فتُسرقني ممن حولي. أما الآن لا يوجد في داخلي شغف الكتابة كالسابق. تحوم فوق رأسي غربان الملل، بسبب معاناتي بعد اصابة ابنتي بكوفيد 19 وقلقي عليها.
 اليوم أخلي مكاني، أروح وأجيء في رقعتي المخصصة للكتابة كجندي شطرنج مهزوم؛ بعد الإكباب والدأب لأكثر من سنة ونصف السنة، بمواظبة، وبعدد ساعات مخصصة لكل يوم، وبتكاليف حازمة لإنجاز روايتي الثانية.
اليوم تستأثر بي الأفكار المضادّة، تتربّع في رأسي، كمثل الابتعاد، والسفر لوجهة ما، وتعويض عائلتي، عن ساعات انشغالي عنهم بالقراءة والكتابة!
لا أنكر أن في كل كتاب انجزه _على قلتها_ أشعرني مُتعبة، مُستنزفة، فلا مردود مالي يكافئ تعب سنوات من الجهد والانكباب على الكتابة والتنقيح، ولا دعم معنوي. وأراني مع هذا انغمر مع الكتابة أكثر، مُنهكة في سبيل اتمام ما بدأت. متخوفة من جريان وقتي دون طائل. فأراوح بين قراءة أو انهماك في الكتابة.
أدرك ما يُستبد بي حينها، وما يتوجب علي: المضيّ أكثر في ساعات مخصصة لذلك، وتوظيف الكلمات بعبارات رشيقة، استشفاف وتجلّي ثر للارتقاء بها، واستبقاء الأنسب منها. مُلزمة نفسي بملء إرادتي، خاضعتها لوقت محدد. اشحذ همتي ومع ذلك يساورني شك أن زمني ليس بكاف لإنجاز ما أطمح إليه. أعشق الكلمات حين تُعانق بعضها بتأنّ، وتتجسّد أمام ناظري، إما فرحي برؤيتها حين تزين صفحاتي فلا يُضاهيه فرح آخر. لكن أرى ذلك على حساب أمومتي! أن تعتزل الناس لتواصل رحلتك فلا بأس، لكن الكتابة تتطلب منك اعتزال اسرتك أيضا لبعض الوقت، بل لأغلب ساعات نهارك، فأنا امرأة نهارية. 
أن تمتلك عاطفة جياشة بكل هذا الحب، فهي شعلة النور، وسيكون حتمًا اسلوبك في الكتابة الضوء المنبعث منها. بعض الأحيان تُصيب بعضنا حالة انقطاع عن الكتابة لفترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، أو نُصاب بالانطفاء، فهل يضمحل الخيال الإبداعي حينئذ؟
في اللغة وفي معجم المعاني الجامع، انطفاء: مصدر انطفأ. انطفاء النّار: خمودها، خفوتها. انطفاء شعلته: انتهاؤها. هذا في اللغة. فماذا تعني هذه الكلمة للمبدع، ولَمِ يخافها؟
وللإجابة عن تساؤلي هذا، استدل هنا، أولا، بما كتبه الكاتب والروائي علي الشوك في كتابه “ الكتابة والحياة سيرة ذات “ عن نقصان الضوء المنبعث:” الانطفاء “ أو اضمحلال الكتابة لديه في سنواته الأخيرة ومعاناته بسببها. يكتب في صفحة 267 “ أنا الآن لم أعد أجد لذة في القراءة. وهذه الظاهرة بدأت تلازمني مع احساسي بالانطفاء. ولم أكن أتصور أن الانطفاء سيطال القراءة أيضاً. أنا منطفٍ الآن، لأسباب بايولوجية. وهذا شيء بات يورث عندي أفدح أنواع الكآبة. فأنا أريد أن أكتب حتى النفس الأخير... لكن الشعلة أو الجذوة منطفئة. وهذا شيء غير عادل بالمرة. أن لا تستجيب إليّ طاقاتي في الكتابة “. . فهل يحق لي الآن القول: أنه مَرَق في سماء الابداع، خَطّ مساره وترك بيننا نوره، ثم انطفأ.
يأخذ بعض المبدعين بالبحث عن دم جديد يستمد منه طاقة ايجابية في الكتابة. بالنسبة للرجل “ المرأة “ طاقة ايجابية ومحرك مهم في إبداعه. يقال أن الكتابة صنعة البحث عن روح جديدة، عن أفكار جديدة. 
في الفن كذلك، يقول “ كوليير “ في الفن والشعور الإبداعي ترجمة منير الأصبحي عن توقف المبدع عن العطاء لوقت ما “ ... يجد عقله خاويا، والإحساس الموضوعي أو المحرض من الخارج معطلا بأكمله. في مثل هذا الفراغ يصبح فعل الرسم أو التشكيل “ وفق نموذج معين “ نموذجا لا صياغة للأفكار فيه، يشبه السبات..” كما أن هناك من المبدعين من ذاع صيتهم، كأبن زريق البغدادي وقصيدته “ لا تعذليه “ وهي من أروع القصائد في ديوان العرب. مات بعدها كمدا وحسرة. انطفأ بالموت، ليس لأنه لم يستطع الكتابة ولكنه الفناء، الانطفاء الأعظم.
تمرُّ ببعض الشعراء والكُتّاب لحظات انقطاع عن الكتابة، لعدة اسباب . فقد كتب غابريال غارسيا ماركيز في مقدمة: لماذا اثنتا عشرة ولماذا قصص قصيرة ولماذا مهاجرة. في القصص القصيرة الكاملة، والتي ترجمها صالح علماني عن منشورات دار المدى. في صفحة 330 يقول “ عندما بدأت كتابة قصة موت معلن، سنة 1979 ، تبين لي أنني أفقد مرونة الكتابة في الاستراحة بين كتابين، وأنني أجد مشقة أكبر فأكبر في البدء من جديد. ولهذا، فرضت على نفسي ما بين تشرين الأول 1980 وآذار 1984 ، مهمة كتابة مقالة صحفية أسبوعية، كانت تُنشر في صحف بلدان عديدة، وذلك كنظام انضباطي للحفاظ على سخونة يدي. “. 
هكذا وجدتني استلهم الدرس من صاحب الواقعية العجائبية، عبقري الموهبة والاسلوب. فأُسخن يدي ببعض مقالات، إلى أن يحين موعدي للبدء من جديد مع رحلة الحرف الشاقة والممتعة في نفس الوقت.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير