رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
قصة قصيرة... الوقائع المتخيلة لمصرع أمرئ القيس


المشاهدات 1248
تاريخ الإضافة 2021/07/14 - 5:36 PM
آخر تحديث 2024/03/25 - 5:53 PM

جمال نوري
خمس خطوات فقط هي ما تبقت من المسافة الفاصلة بيني وبينك .. لم أترك خلفي غير صحراء قاحلة تعصف بآلاف الجثث والأماني المبتورة .. لن أهدر كثيراً من عمري في الوصول اليك ،عجبت من نفسي كيف طويت هذه الفيافي وصبرت على الطوى وتجشمت مشاهد الموت والاحتضار الجماعي ، بل وأكثر من كل ذلك انني أحتضنت عشرات الاجساد الطرية لاطفال خبت عيونهم في لفح الصحراء مالبثت أن أنطفأت أنفاسهم تحت انظار الحشد الذي غاص في كبد العراء ناشدا خلاصه في واحة قادمة ..
قال أمرئ القيس : مثلي لا يضيع ولا يخطئ
يتواصل نشيج الارامل والثكالى والعجائز البائرات وهن يدرجن خلف الرجال الذين هدهم الارهاق وشمس الظهيرة اللاهبة .. مضيت معهم، وقاسمتهم حزنهم وكافحت مثلهم بطش الريح ولعنة العطش.. خمسة أيام مضت وما ساور أحد منا الشك في الوصول الى واحة الحلم بعد ان ارتضينا مغادرة الاطلال التي أودعنا فيها أكثر من أنصاف أعمارنا .. سادرون في العراء، تحتنا الرمال المحرقة وفوقنا مباشرة شمس لاهبة وأمامنا هذا السراب اللعين الذي ما أنفك يهزأ بنا ومنذ ان تبرأت أجسادنا من عبء الرماح والسيوف والدروع التي ما عادت تليق بهياكلنا الضامرة .. هزأت بنا الصحراء أيضاً وذئاب الليل التي بقيت تحوم حول قافلتنا التي شقت طريقها خلفك وأنت توغل عميقاً في الافق حتى انك لم تكن لتظهر إلا بين الفينة والاخرى... ما الذي جعلنا نتقهقر ونحن الذين غالبنا غضب الصحراء وقسوة العطش؟ أردف _هي خطوات .. ونصل الى الماء...
 التمس طريقي بين الناس، وهم في يومهم السادس، أسرى الدوار والعطش، لم تختلط عليَ الامور رغم ما فعلته الذئاب ليلة امس، ورحت انقل خطواتي على الرمال الملتهبة مارا برتل الارامل والكهول والجرحى والمجانين والاطفال والمعوقين ، والدراويش والجواري والغلمان ، كلهم كانوا يتطلعون الى الامام ، الى حيث حصانك المحاط بعشرات الرجال المدججين بالسلاح ..نفرت معهم مع أنني كنت أسرع منهم جميعاً، أنغمست روحي في سورة الحزن الجاثمة على الارتال المتأخرة التي ما كانت لتقطع فرسخاً ، حتى تكون قد أودعت الصحراء جثة أو جثتين،  أستمعت الى وجيب أوجاعهم ولامست في لحظة تجل ارواحهم الجزعة المتطلعت الى الخلاص القريب .قال _ أنفروا .. لا وقت للحزن والشتائم .. أتبعوني 
لم أستطع ان اتخذ قرارا لقد اخذت كلماته بخناقي، وقادتني كالماخوذ الى ربوع مباهجة وطقوس شبقة المتقد دائماً... كنت أرنو بحياد، ينتفض الغضب في داخلي احياناً لكن صوته الاخن يطفيء ويلجم كل فكرة يبذرها الاشقياء في اصقاع روحي .. لقد حل شباط ، اوان الشبق ونوبات اللذة المستنفرة في جسده الفاحم، لم يخطئ رجال العشيرة الاشداء عندما كانوا يتندرون فيما بينهم _
لنخرس جيشان هذا الهر الماكر ، ويمضون الى أعماق الصحراء في طرق محفوفة بالموت، يتربصون خيام قبيلة أخرى أنطوت على نفسها في غفلة من جنون سنابك الغدر، يعودون بعد حين ، وبرفقتهم السبايا ، صبايا باكرات، وأرامل، ونساء أنتزعن عنوة من أحضان أزواجهن .. سيكتمل الفرح ، أذن .. وستهداء العشيرة الى أن يقضي ((الهر)) وطره ويتخلص بعد حين من سكرات اللذة فيجتمع الى القوم لينظر في أمر العوام ويبتكر للعقبات حلولا يصطفيهامن ذاكرته الخارقة .. حديثه كالشعر ونظراته تقدح بالحكمة ، ياسرني بكلامه ويغضبني بجنونه .. ولا ينسى في غمرة مباهجه ان يبتاع مختلف الملابس لنسائه، ولقد كان أشد مايبهجه رؤيتهن يرفلن بالغلائل الدخانية والرشيدية والطبرية والقصب الملون، والحرير المعين، والمقانع النيسابورية وأُزر الملحم الخراسانية والغلائل الممسكة والقمص المعنبرة والازر المعصفرة ومنها ماصنع من الحرير والقز والديباج والوشي .. وفوق هذا وذاك يمتليء بهجة برؤية الاقراط والأساور وهي تغلل طراوة اطرافهن، وتأسره السعادة برؤية اللؤلؤ والماس والياقوت والزمرد والعقيق والجمشت والزبرجد والياقوت الاصفر... قال: أتبعوني ..أتبعوني. ضاقت الصحراء بسعتها المخيفة، حين اقترب الليل، ودب الوهن في الفرائص المرتعدة .. ليلة قاسية أخرى وغدا سيطل النهار السابع على بعضنا، هذا لو استطعنا تجنب غارات الذئاب الجائعة .. عصية على الوصف هذه الصحراء الموحشة الملغومة بصرخات الرعب.قال _ أتبعوني .. ومضى برفقة رجاله الذين احتفظوا بكثير من الزاد والماء .. وبين لحظة واخرى ينسحب احدهم ليخبرنا عن تجلياته واخر كلماته المحتضره .. ونحن في ركبنا المتباطئ مطأطئي الرؤوس ننتظر الموت وهو يفترسنا واحدا تلو الاخر .. أكمم وجهي بكوفية بيضاء أتجنب عواصف الرمل، ألتفت يمينا ويساراً... لا أعثر على شيء اتطلع الى الامام .. أبحث عنك .. بقليل من الكلام ساتماسك وأستعيد قوتي .. انظر الى كل الجهات فترتد نظراتي خائبة .. وحدي انقل خطواتي متحديا هول العاصفة . خمس خطوات فقط هي ماتبقت من المسافة الفاصلة بيني وبينك .. قف .. لا دفن هذا السيف في نحرك .. أصرخ باعلى صوتي لكنك لا تسمع ، عمرك ما كنت لتسمع شيئاً إلا ما كان يرضيك ويسعدك .. لا ادري كيف كانت النقائض تجتمع فيك .. الى اين تقودنا الان بعد ان اصاب عبيد بن الابرص منك الف مقتل ؟ قف ايها الافاق المخادع ، في ذراعي سخط القبيلة وتحت اقدامي مسخ خطاياك .. اقترب ، سأدفع عمري ثمن هذه الخطوات القليلة المتبقية .. ما الذي جنيته الان .. لوحدك تمضي الى حتفك تنشد خلاصك عند ملك الروم وكانه سيعد لك العدة، ويجيش لك الجيوش للأخذ بثار أبيك ... تشتد الريح فينحسر رداؤك كاشفاً عن ظهر منتصب واضلاع متأكلة ينخر فيها الدود، ووجهك الشاخص الى الامام يصرخ بصوت مدو _
أتبعوني .. فمثلي لا يضيع ولا يخطئ ..


تابعنا على
تصميم وتطوير