جريدة الزوراء العراقية

استهداف الصحفيين.. مسدس يُصوّب على قلب أوروبا


امستردام/متابعة الزوراء:
تعيد محاولة اغتيال الصحفي الهولندي، بيتر دي فريس، قبل نحو أسبوع في قلب أمستردام، التذكير بأن استهداف الصحفيين لم يعد حكرًا على الأنظمة الديكتاتوريّة والتسلّطيّة. دي فريس الذي لا يزال يصارع في أحد مستشفيات هولندا، تحت حراسة أمنية مشددة، ويعمل منذ نحو 30 سنة على قضايا الجريمة المنظمة، يبدو أنه اقترب من «خطوط حمر» باتت العصابات وعلاقاتها المتشعّبة ترسمها في أوروبا، حتى شهدناها في أكثر من بلد خلال الأعوام الماضية.  
فاقتراب دي فريس من العالم السفلي لعصابات تهريب المخدرات إلى ميناء روتردام، ومنه إلى بقية أنحاء أوروبا، يبدو أنه مسّ بمصالح كثيرين في عالم العصابات والفساد التي يتوسع نفوذها في القارة الأوروبية، من اسكندنافيا شمالاً إلى مالطا جنوباً، فاستهدفوه بخمس رصاصات للقضاء عليه، بعد خروجه من محطة «أر تي إل» التلفزيونية، حيث كان ضيفاً على برنامج. 
هذا الاستهداف يعيد التذكير أيضًا باستهدافات سابقة، خلال السنوات الماضية، أبرزها في مالطا وسلوفاكيا، بحق صحفيين عملا على تحقيقات تتعلق بالفساد وعالم الجريمة المنظمة، حتى بات الأمر أشبه بالنهج. ففي القارة الأوروبية عام 2017، اغتيلت الصحفية المالطية دافني غاروانا غاليزيا في أكتوبر/تشرين الأول بسيارة مفخخة، وهي التي كانت تشتهر بالعمل على قضايا الفساد والتهرب الضريبي. وقضى بعدها بأربعة أشهر، في فبراير/شباط 2018، السلوفاكي يان كوسياك مع خطيبته، وكان الاثنان يعملان على تحقيق في صلات سياسيين محليين بالمافيا الإيطالية. وفي إبريل/نيسان الماضي، قتل الصحفي الجنائي اليوناني البارز غيورغوس كارايفز، بعدما اقترب رجلان يستقلان دراجة نارية منه، وأطلق الراكب النار عليه، حين كان عائداً من مقر عمله. وقد قُتلت الصحفية والمؤلفة ليرا ماكي، البالغة من العمر 29 عاماً، أثناء تغطيتها أعمال الشغب في أيرلندا الشمالية، في إبريل/ نيسان عام 2019. وترفع هذه الحالات الأربع، إضافةً إلى استهداف دي فريس، جرائم قتل الصحفيين في أوروبا خلال السنوات الماضية إلى خمس، ما يؤكد المخاوف المتزايدة بشأن التراجع المطرد في حرية الصحافة في عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
واقع الحال يقول إنّ محاولة الاغتيال الأخيرة في أمستردام تقدّم صورة عن أنّ نمطًا جديدًا أصبح يتشكل في استهداف الصحفيين، وليس بالضرورة أنها كلّها تصفية جسدية أو محاولة قتل. فمن بين 50 صحفياً قتلوا العام 2020 الماضي، ولم يكونوا جميعاً في مناطق صراع وحروب، تعرّض 84 في المئة من هؤلاء لملاحقة وتهديدات قبل تصفيتهم، بحسب منظمة «صحفيون بلا حدود»، في حين تتسع أفكار التخلص من الصحفيين وإبعادهم عن طريق التحقيق في الفساد والجرائم المنظمة.  
وكان للعصابات المنظمة نصيب الأسد في المسؤولية عن استهداف الصحفيين حول العالم، وأوروبا ضمنا، منذ 2015، بحسب تقارير منظمتي «مراسلون بلا حدود» و»حماية الصحفيين». فخلال عامين بين 2015 و2017، قتل 30 صحفيا على يد عصابات من بين نحو 150 صحفيا قضوا حول العالم. والأخطر، في ما تكشفه التقارير الصحفية المختصة، وجود صلات بين مسؤولين حكوميين وتلك العصابات، وخصوصاً حين اقترب الصحافيون من قضايا الفساد. وسجلت المكسيك وحدها بين 2017 و2018 مقتل 17 من هؤلاء الصحفيين الذين عملوا في الصحافة الاستقصائية حول الفساد وصلاته بعالم الجريمة المنظمة. وفي إيطاليا نفسها، يعيش ما يقارب 200 صحفي تحت حراسة أمنية بسبب تهديدات القتل التي تطاردهم، بمن فيهم الكاتب الصحفي روبرتو سافيانو، صاحب كتاب مافيا نابولي. وحول العالم، قضى منذ 1992 وحتى 2021 أكثر من 1405 صحفيين، من بينهم نحو 899 في جرائم اغتيال وقتل مباشر، بحسب إحصائية صادرة عن «لجنة حماية الصحفيين» CPJ. 
وما يعنيه تزايد الاستهداف في أوروبا، أنّه لم يعد حكرا على أنظمة تسلطية وديكتاتوريّة، أو على مناطق الصراعات. وهو ما باتت تشهده بعض الدول، كألمانيا التي يتعرض فيها الصحفيون للضرب والاعتداء أثناء تغطية فعاليات وأحداث يشارك فيها معسكرا التطرف السياسي في البلد. وهو ما ينسحب أيضاً على دول أخرى يتعرض فيها الصحفيون لمضايقات وتهديد، وتقييد عمل من الشرطة أثناء جائحة كورونا وفعاليات الشارع المحتج. 
ففي عدد من دول الاتحاد الأوروبي، كالمجر وبولندا وسلوفاكيا والتشيك، تتعرض الصحافة لضغوط هائلة، سواء لناحية القوانين التي تقوض حرية الصحافة أو وضع الصحفيين المستقلين، غير التابعين أو المؤيدين للأنظمة الميالة إلى القومية المحافظة المتشددة، تحت طائلة الاتهام بالتخوين و»التطرف اليساري»، والتهمة الأخيرة تنسحب على حالات في السويد والدنمارك ويطلقها معسكرا التطرف القومي في البلدين. 
وإذا كان نظام بيلاروسيا، برئاسة ألكسندر لوكاشينكو، متهما بممارسة شتى أشكال تقييد الصحافة وحرية الإعلام والتعبير، وصولا إلى قرصنة جوية لاعتقال صحفي معارض، فإن الحالة الروسية ليست أفضل حالا. فقبل 15 سنة، تحول اغتيال الصحفية الروسية آنا بوليتكوفسكايا إلى مثل عن الأجواء التي يعمل فيها الصحفيون الروس غير المنخرطين في دوائر الكرملين، ما شكل لأكثر من عقد مضى تراجعا في مستوى حرية الصحفيين في موسكو، وشعور هؤلاء بتهديد متواصل. 
وبحسب التصنيف السنوي لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، تحتل النرويج الصدارة للعام الخامس على التوالي، رغم أنّ وسائل الإعلام واجهت بعض الصعوبات في الوصول إلى المعلومات العامة المتعلقة بالوباء. وبينما احتفظت فنلندا بموقعها في المركز الثاني، استعادت السويد المرتبة الثالثة فيما كانت الدنمارك في المرتبة الرابعة. إلا أنّ القارة الأوروبية شهدت تراجعاً بفعل تضاعف وتيرة أعمال العنف ضد الصحفيين ووسائل الإعلام داخل منطقة الاتحاد الأوروبي والبلقان، فقد سُجل تزايد ملحوظ في الهجمات ضد الصحفيين وفي الاعتقالات التعسفية في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا (34) وإيطاليا (41) وبولندا (64) واليونان (70) وصربيا (93) وبلغاريا (112). فصحيح أن أوروبا تحتل مرتبة متقدمة لناحية حرية الصحافة والتعبير، لكن الصحيح في المقابل هو أن توسع حدود الاتحاد الأوروبي وانضمام دول تتهم من عاصمة الاتحاد نفسه، في بروكسل، بتقويض تلك الحريات، واتساع ممارسات تستهدف الصحفيين فرديا، من خلال التهديد الصريح والمبطن، يضع كل تلك الحريات تحت ضغوط كبيرة، وبالأخص مع تلميحات عن تغلغل عصابات عالم الفساد والجريمة إلى مستويات نخب حزبية وحاكمة. وهنا تشير «مراسلون بلا حدود» إلى تراجع سيادة القانون وزيادة الاعتداءات العنيفة وتزايد التهديدات عبر الإنترنت، باعتبارها من بين المشاكل الرئيسة التي تهدد حرية المؤسسات الإعلامية في أوروبا. وتوضح أنّ هناك «هجوما متطورا ومنهجيا على حريات الصحافة» في المجر يلهم تكتيكات مماثلة في بولندا وسلوفينيا.فحتى حين يشدد السياسيون على ضرورة محافظة الصحافة على مكانتها كسلطة رابعة، وأنه ينبغي أن تبقى خارج هياكل السلطة وتواصل نقدها للسلطات الحاكمة، فإن سياسيين في الاتحاد الأوروبي يعبرون مرارا وتكرارا عن ضيقهم من الصحافة والصحفيين. وهنا، يمكن استعادة توبيخ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أثناء زيارته بيروت قبل نحو عام، لصحفي فرنسي، ومواقف الرئيس التشيكي ميلوش زيمان المحرضة على الصحفيين، كما يفعل رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ويفعل غيرهما بطريقة غير مباشرة، للإشارة إلى أن حدود استهداف الصحفيين، التي ليست بالضرورة عبر التفجير والاغتيال الجسدي، باتت تطرق أبواب الاتحاد الأوروبي أكثر من السابق.


المشاهدات 1188
تاريخ الإضافة 2021/07/12 - 6:17 PM
آخر تحديث 2024/03/17 - 7:00 AM

طباعة
www.AlzawraaPaper.com