ناهض الخياط
يُعد التدوين التاريخي الموضوعي النزيه من أهم المصادر المعرفية التي نطّلِع فيها على مسيرة الحياة في أفعالها الانسانية المختلفة ، وبه نحافظ على منجزاتها العظيمة من التشويه والضياع .
ولأن المسيرة الحضارية متظافرة بعناصرها ، وتأثير حراكها المتبادَل بينها ، نكون ملزَمين بتدوين كل معطياتها بوعينا لمعرفة خصائص التأثير المتبادَل بين الناس والمكان وطبيعته عبر مراحله المختلفة .
ومن هنا جاءت أهمية هذا البحث (السماوة في القرن العشرين) مما حققه كاتبه من مستلزمات البحث النزيه الرصين. وقد اتضح هذا في مقدمته : ’’ تكتسب تأرخة الواقع اليومي أهمية لا يمكن تجاهلها ، ويغدو التاريخ المكتوب نحتا على صوان الزمن ، لا يمكن تجاهله . ويقول الباحث أيضا : ’’ إني استفدت كثيرا من رموز ٍ سماوية متوهجة الذاكرة أسمعتني شفاهيا ً، أو نهلتُ منها كتابيا ً من أجل أن يخرج هذا الكتاب إلى العَلن ، فيغدو ذاكرة للأجيال القادمة ‘‘.
ويشير الباحث إلى ما بذله في تأليفه من جهد كبير، .. فيقول ’’ يشكّل هذا الكتاب الوجه الآخر للتعريف بالسماوة ، والمجتمع السماوي ، والأحداث التي مرت بها السماوة. وقد جهدتُ ما يزيد على الخمسة عشر سنة من أجل إعداده وتقديمه إلى القارئ مع اعترافي بنقصه ، فالسماوة تجمع الكثير والكثير مما يمكن تدوينه.‘‘ .
وهنا .. يتحتم علينا الإشادة بهذا الجهد الكبير إضافة لجهوده المبدعة الأخرى : شاعرا وقاصا ً وناقدا ً.. ثم روائيا ً مميزا ، وقد انعكست ظلاله الجمالية الوارافة على بنية هذا الكتاب ، فنرى في مفتتح بحثه إحدى قصائده التي تغزل بها في جمال مدينته :
السماوة .. كتابُ مدينة :
أيتها البدوية الدافعة ساقيها
في خضيب النقاء
خذي مني فضاء النخيل
وانهضي !
أيها الفضاء ُ لقلبي : مَرِّر أصابعَك الضارية َ
على أديم وجهي
وانحتني بارقة ً لبدوية ٍ تحلم بالحنّاء
وترقد على وسادة ٍ من مدينة !
كما نرى كيف تخللت صفحات ِ بحثه في عَرضها لجغرافية مدينته وتأريخها لمساتُ السرد القصصي الجميل !
وما كانت قصيدته ( السماوة .. كتاب مدينة ) إلاّ أُغنية عزْم اقتحام ٍ لدرب عسير طويل ، رسَمه ُ الباحثُ فصولا وملاحق ، ليستوفي فيها رؤيته وعشقه لمدينته التي وصفَها ب ( مدينة كتاب) . ونراها ، أيضا ، كتابَ زمن ٍ متجدد طويل عريق ، منذ نشأتها قرية ًصغيرة ً بنظامها الزراعي لتغدو الخطوة َ الأولى للتطور الاجتماعي من حياته الرعوية البدائية ، وما يناقضه لنظام الزراعة المستقر البسيط . وما كان صراع الملك ( كلكامش ) مع ضديده الرعوي ( أنكيدو ) .. كما روته لنا ملحمة كلكامش إلاّ تعبيرا ً رمزيا ًعن الصراع بين القديم والجديد في طريقة عيشه ِ وقيَمه ِ المختلفة . ونراه بواقعيته في حروبه المتوالية بين المجتمع المدني المستقر ونقيضه ِ كما تمثل َ لنا في هجمات الغزو والاحتلال الأجنبي المتكرر لأرضه بعد حين . فكانت ثورة ( مدينة الوركاء ) عام 2060 قبل الميلاد .. بقيادة ملكها ( أوتوحيكال ) أول َ ثورة في التاريخ البشري لتحرير الوطن من الأجانب ( الكوتيين ) الرعاة الذين زحفوا من جبال ( زاكروز ) لاحتلال بلاد سومر وأكد . وليواصل المجتمع ُالمدني بنظامه الزراعي تقدمه مع ما يرافقه من العمل الصناعي البسيط الذي يمده بما يحتاجه من أدوات ، فتكون الحدادة والنجارة قاعدة ً لقطّاع ٍ مدنيّ جديد ، وانجازات ٍ مبدعة ٍ لاحقة ، رسم الزمن خطوتها في سطورهذا الكتاب الذي ضمّ بين دفتيه مسيرة التطور الانساني عبر العهود التي أضاءها المؤرخون السابقون واللاحقون ، وما كشفه لنا بحفرياتهم العلماء المنقبون .
وعلينا هنا أن نبين معنى اسم ( السماوة ) التي اختاره الزمن لهذه المدينة المائزة . لقد ذكر الباحث بأن اسمها القديم قبل الإسلام كان ( أوليس ) في سياق حديثه عنها : ’’ .. وعلى حد تعبير (ياقوت الحموي ) في كتابه ( معجم البلدان ) الذي كتبه في العام 1429 ميلادي ‘‘ ، ولم يذكر الباحث سبب تسميتها به ، ولدى مراجعتي (المعجم الوسيط ) وجدتُ أن ( أوليس ) صفة ، وفعلها ألَس َ.. بمعنى غشّ َ وسرق َ والفعل : تألّسَ .. بمعنى : توجّع َ وماطل َ وكلمة ( الألُوس ) تعني القليل من الطعام . وهنا .. أرى أن الألُوس هي الصفة المطابقة لحالة هذه القرية المطلّة على ( نهر العطشان ) بعد أن ْ غيّر مجراه لربوع مالحة ’’ إثرَ فيضان كبير غمر المنطقة عام 1700 للميلاد ‘‘ ، فصارالنهر بخيلا لا يعطي إلاّ القليل .
وبعد أن ْ أسقط َالزمن ُ هذا الإسم من ذاكرته ، ونعت َ المدينة أخيرا ًبآسم ( السماوة ) ، تصدى لها الشاعر ( زيد الشهيد ) ليتغنى بقصيدته ( السماوة .. كتاب مدينة ) .. مُفتَتِحا ً بها بحثه الكبير ( السماوة .. في القرن العشرين ).
وحين استدرجني آسمُها اللامع الذي جذبَ اهتمام َ المؤرخين والأثريين ، ورددت ِ القصائد ُ (والعراضاتُ ) مفاخرَها وبطولاتِها بين النخيل ، صار لزاما ً علي ّ أن ْ أعرف َ سرّ تسميتها بهذا الإسم الجميل ! . وينفتح ( المعجم الوسيط ) ثانية ً ليدلني على ما أريد ، فرأيته في مصادر الفعل : ( سما – يسمو .. سماء ً، وسموّا ً، وسَماوة ً ) وكلها تدل على العُلو، والمقام الرفيع .. و (السَماوة ُ) تعني ، أيضا ً، سقف َ البيت وغيرِه .. ومِن كل ِ شيئ شخصَه وطلعتَه .. وسماوة ُ الهلال : إذا ارتفع شيئا ً في أفقه . والسَماوة ، الآن ، كما تحدث عنها الشاعرُ الروائي ( زيد الشهيد ) في كتابه الكبير.. ، ألا تستحق منا أن نردد َ معه قصيدته ( السماوة مدينة كتاب ) وزمن ٍ لِمسيرة الفكر البشري بإشراقاته المبدعة عِبرَ الدهور .