جريدة الزوراء العراقية

انتزاع قلب المجتمع


كرم نعمة للحانات في بريطانيا تعريف مختلف كليا عما يتبادر إلى أذهاننا، فهي ليست المكان الرديء المعادل لمفردة الخمارات! لذلك توجد في المدن البريطانية حانات أكثر مما توجد متاجر. الحانة مكان عائلي للتحاور والاستماع إلى الآخرين والتعرف على أصدقاء جدد ومشاهدة مباريات كرة القدم. لذلك جرب بعض المشغولين بالطعام والشراب الحلال فتح حانات في مدن بريطانية تقدم المشروبات الحلال! نجحت الفكرة ووجدت لها روادها من الجالية المسلمة، وبقيت الحانة الحلال تكتفي باسمها وبوظيفتها كمكان اجتماعي مريح للحديث والإنصات. الحانة في بريطانيا لا تكتفي بتقديم الكحول إلى روادها، بل تشكل ملاذا مريحا لإخراج المرء من الوحدة والضيق والتكرار والطقس البارد وتشابه أجواء البيت. أو بتعريف الكاتب جون هاريس: الحانة معادل موضوعي للمجتمع وإغلاقها يعني إزالة قلب هذا المجتمع من جسده. وتبدو الحانات بالنسبة لكبار السن أشبه بملتقى نهاري يومي يتحاورون فيه مثلما يتأملون ما يحدث أمامهم من حركة الناس لتجديد طاقة أجسادهم الواهنة، لأن مجرد بقائهم في المنزل يعني انتظار موتهم. فما أصعب على المرء أن ينتظر موته “من يقدر على رفضه إن أتى؟”. تتحول الحانات في ظهيرة عطلة نهاية الأسبوع إلى ملتقى عائلي للأسرة والأصدقاء بمن فيهم الأطفال، سيكون موعد الغداء هناك. كل هذا انتهى بإغلاق الحانات في البلاد، وفشلت كل البدائل المقترحة لإيجاد بدائل لها بالنسبة للبريطانيين. انتشار وباء كورونا غير نمط حياة البريطانيين ووجدوا أن الشراب والجلوس في المنزل والقيام بالتواصل الاجتماعي عبر الهواتف، بديل لا يعوض الحانة، إن لم يكن بائسا ومثيرا لمزيد من القلق. الأرقام الجديدة بعد أشهر من الإغلاق كشفت أن ثلاثة في المئة من الأسر البريطانية تتعاطى مضادات الاكتئاب، بعد أن مرت عليها تسعة أشهر من عدم معرفة ما تقوم به. ليست الحكومة وحدها لا تمتلك إستراتيجية لإدارة المستقبل، بل الأسرة الواحدة تعيش دوامتها اليوم ولا تجد فكرة ملائمة لمساعدتها، دعك من نظرية المؤامرة الكبرى عما يجري باسم كورونا، إنها سائدة حتى عند أصحاب العقول الراجحة. إذا كانت حياة الناس قد تغيرت بعد أشهر من التباعد الكئيب، فإن من الصعوبة بمكان أن تعود كما كانت، والحانة في بريطانيا أنموذج لأمثلة يمكن أن نجدها لدى كل المجتمعات في العالم، فالأمكنة صنعت أعرافها الاجتماعية بوجود الناس، المدن متاحف كبيرة، روحها البشر وإن خلت منهم تصبح كتلا كونكريتية كأغلال العقد المصفد. في هذه الأمكنة، الحانة البريطانية مثالا، تطمئن القلوب عندما تلتقي الأجيال مع بعضها، وبمجرد إغلاقها يعني بناء جزر معزولة داخل المجتمع الواحد، إن لم ينتزع قلبه.    

المشاهدات 1237
تاريخ الإضافة 2020/12/08 - 5:24 PM
آخر تحديث 2024/03/29 - 11:58 AM

طباعة
www.AlzawraaPaper.com